من مظاهر يسر الشريعة .. وحدة المصدر

ليس في شريعة الإسلام حاكم إلا الله.

وليس في أمة الإسلام سيادة لغير الله.

فاللله تبارك وتعالى هو المتفرد بالملك والسلطان والحكم والتشريع والأمر والنهي والتحليل والتحريم، وله وحدة السيادة على العالمين بلا شريك. ووحيه المعصوم هو وحده المرجع والمنهج والحكم.

وليس لأحد – مهما كان – أن يستقل بالتشريع ولا أن يشارك الله تعالى فيه. وما الرسول إلا مبلغ عن ربه. قال تعالى ﴿ إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ ﴾[1] وقال ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ﴾[2] وقال ﴿ يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ ﴾[3].

وما الإمام “الحاكم الشرعي الذي يحكم بالشريعة ” إلا منفذ لحكم الله قائم على شريعته نائب عن الملة في إقامة منهج الله وحراسة دينه وسياسة الدنيا بالدين.

وما العلماء والفقهاء والمجتهدون إلا واسطة لمعرفة واستنباط حكم الله تعالى من وحيه وخطابه. وما العقل إلا أداة للبحث عن هذا الحكم بما أودع الله فيه من مواهب وخصائص وإمكانيات – وليس في أصول التشريع والاستدلال – سواء المتفق عليها أو المختلف فيها – أصل واحد يستقل عن الوحي الألهي. فالكتاب هو كلام الله معنًا ولفظًا، والسنة هي البيان لهذا الوحي أوحى الله معناها إلى رسوله دون لفظها. والقياس والاستصحاب.

والاستقراء والاستدلال وسائر ضروب الاجتهاد كلها قنوات تنبع من الوحي ويهيمن عليها الكتاب العزيز والسنة الشريفة. حتى إجماع الأمة – وهو الأصل الثالث – لايستقل بالتشريع ولاينشىء الحكم وإنما هو فقط علامة على حكم الله، لأن الله تعالى هو الذي قضى بألا تجتمع أمته على ضلاله، وألايخلو زمان من الطائفة المنصورة التي هي على الحق دائمًا بحيث إذا جمعت الأمة على أمر دخلت هذه الطائفة المحقة فيه حتمًا، فإذا أجمعت الأمة على أمر ما عُلم أن إجماعها هذا علامة على حكم الله هو ما أجمعت عليه.

ومن ادعى لنفسه الحق في الأمر والتشريع فهو طاغوت يجب الكفر به سواء كان فردًا – ديكتاتورا- أو جهة – كالبرلمان. لأن الأمر على الخلق هو حق الخالق بلا شك قال تعالى ﴿ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ﴾[4].

ومن رضى بتشريع منيشرع ما لم يأذن به الله فقد اتخذه مع الله ندًا وشريكًا، قال تعالى ﴿ أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ ﴾[5].

وقد اعتب الإسلام الحكم بغير ما أنزل الله فسقًا أكبر وظلمًا أكبر وكفرًا أكبر وجاهلية أكيدة فقال تعالى ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾[6] وقال ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾[7].

وقال ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾[8] وقال: ﴿ أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾[9].

وأمر الله تبارك وتعالى رسوله أن ينفذ حكم الله وحده وأن يحكم بين الناس بما أنزل الله وحذره أن يفتنه الناس عن شيء منه. فقال ﴿ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ﴾[10] وقال﴿ وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ﴾[11].

وهذه الحقيقة – وهي تفرد الله تعالى بالحكم – معلومة من دين الله بالضرورة، وأجمعت الأمة قاطبة، بل هي محور الإسلام الأكبر وقطبه الأعظم وأول مقتضى لشهادة أن لاإله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

وقد صرحت آيات القرآن بها إجمالاً وتفصيلاً بما لايدع مع اليقين شكًا ولا مع البيان غبشًا.

قال تعالى: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ﴾[12] وقال ﴿ وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾[13] وقال ﴿ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ﴾[14].

هذه الحقيقة العظيمة لها سببان رئيسيان:

السبب الأول:

أن التشريع والحكم والأمر والنهي والتحليل والتحريم هو حق لله تعالى وحده، إذ لا يملك حق التشريع إلا من له المنة على عباده بالخلق والرزق، كما أنه المقتضى الأول للألوهية والربوبية على العالمين، فالرب هو وحده الذي له السيادة على المريبوبين والإله هو وحده الذي له السلطان على العباد.

السبب الثاني:

أن الإنسان لايمكن أن يستقل بالنظر لنفسه ولا يبلغ أن يضع لنفسه المنهج والدستور الذي يضبط حياته ويصلح شأنه. وذلك لأن الإنسان محدود الزمان والمكان محدود الإدراك، محاط بالشبهات والوساوس، متلبس بالأهواء موصوف بالعجز والنقص. وهذا لايحط من قدر الإنسان فالإنسان أكرم الخلق على الله، ولكنه هذا التكريم لايرفعه إلى مراتب الألوهية ولايخرجه عن صفة البشرية ولايجعله يستغني عن إرشاد السماء.

وكون الوحي السماوي متفرد بالحكم والتشريع مظهر عظيم من مظاهر اليسر والرحمة في الإسلام وذلك من وجهين:

الأول: أنه يضمن للبشرية السلامة في الدنيا والآخرة إذا التزمت بهذا المنهج واستظلت بهذه الشريعة.

الثاني: أنه يعفي من آثار التخبط العشوائي في ظلمات التشريع البشري القاصر. ذلك التخبط الذي كان له بالغ الأثر في حيرة البشرية وضلالها وشقائها ووقوعها في العنت والمشقة.

وما شقيت البشرية بشيء شقاءها بالشرائع الوضعية والأنظمة الطاغونية التي تفسد الحياة وتنغص العيش وتعود على الناس بالعنت والمشقة والحيرة القاتلة والتخبط الدائم.

فإذا أماط الإسلام عن البشرية ظلال الشرائع الوضعية المشؤومة وتفرد الوحي المعصوم بالتشريع وبسط نوره الصافي في حياة الناس فمن الذي ينكر عندئذ أن هذا اليسر والخير والرخاء والرحمة الواسعة؟

[1] الشورى 48.

[2] النحل 82.

[3] المائدة 67.

[4] الأعراف 54.

[5] الشورى 21.

[6] المائدة 44.

[7] المائة 45

[8] المائدة 47.

[9] المائدة 50.

[10] المائدة 48.

[11] المائدة 49.

[12] يوسف 40.

[13] القصص 88.

[14] الشورى 10.