متى وجدت الحرية ومتى ولدت؟ أيَّ لحظة باهرة تلك التي شهدت بزوغ شمس الحرية؟ سؤال عن منشأ ومنبت الحرية، لا يَرِدُ إلا على أخيلة عُشَّاقها التوَّاقين إليها، سؤال لا تُعَدُّ الإجابة عليه أو البحث فيه من قبيل الترف العقليّ أو الفضول الكلاميّ، إنَّه سؤال جوهريّ تترتب عليه مفاهيم أساسية ويسهم في حلّ إشكالات جَمَّة.
ولكي نكون موضوعيين ومنصفين في ذات الوقت؛ يتوجب علينا التسليم بحقيقة تاريخية وواقعية وإنسانية كذلك، وهي أنَّ الحرية ليس لها ميلاد واحد؛ لكونها – ككثير من ظواهر التاريخ الإنسانيّ – دوَّارةً؛ يتداولها الفناء والوجود، ويتجاذبها الموت والحياة؛ فمن تناول ميلاداً واحداً لها جانبه الإنصاف وتجافى عن الموضوعية.
وإذا كنَّا نسلم بأنَّ الحرية فطرة إنسانية؛ فلا بدَّ من التسليم بأنَّ اللحظة التي شهدت ميلاد الإنسان سعدت بميلاد الحرية، وهذا هو عين ما يقرّره القرآن الكريم، غير أنَّ القرآن الكريم – لكونه كلام الله لا يخضع لما يخضع له كلام البشر من الانسياق لتلبية الحاجة الآنيّة الأكثر إلحاحاً – تراه يتحدث عنها ضمن مفردات أخرى لا تقل عنها أهمية والتصاقاً بهذا المخلوق الجديد (الإنسان)، فالحرية والتكريم والمسئولية دائرة متصلة وحلقة غير منفصمه، وجدت حول الإنسان في مهده الأول؛ فلا يُتصور وجود الإنسان كمخلوق مميز متميز خارج هذا الطوق العبقريّ الذي يجمع له التشريف والتكليف في باقة عبقرية خلابة.
فلنتأمل هذه الآيات: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة 30) (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) (البقرة 34) (وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) (البقرة 35) هذه الآيات من سورة البقرة – وأمثالها في القرآن كثير – تشتمل على رؤوس المثلث الذي ولد الإنسان بداخله، فرأسه المسئولية، وقاعدته الحرية والتكريم.
والتكريم شديد الظهور في كل هذه المشاهد؛ لأنَّه أصل للحرية وهي فرع عليه، والمسئولية مطوية في ثنايا الاستخلاف (إنِّي جاعل في الأرض خليفة) أي: خليفة عنِّي يخلفني في إجراء أحكامي في أرضي وبين خلقي(1)، أمَّا الحرية فبرغم خفائها على النظرة العَجْلَى تراها في المشهد الثالث تكاد تملأ الصورة كلها، فقوله تعالى: (حيث شئتما) تفجير بيد القدرة الإلهية المبدعة لطاقة الحرية، أمَّا تضييقُ دائرةِ الحظر في قوله سبحانه: (ولا تقربا هذه الشجرة) فهو توسيع لمدى الحرية، ثم قوله جل شأنه: (فتكونا من الظالمين) لا يخلو من إشارة إلى أنَّ الحظر معلل بمعنى يجعله متساوقاً مع الكرامة الإنسانية، ولقد كانت تلك اللقطات العابرة من حياة الإنسان الأول بمثابة الإعداد والتهيئة؛ لينزل الإنسان إلى الأرض بذات القيم التي ولد بصحبتها: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
ذلك كان الميلاد الأول للحرية، وهو يؤكد التصاقها بالفطرة الإنسانية، وصدورها عن الخالق جل وعلا، وانبثاقها من قاعدة الكرامة الإنسانية، وتَقَيُّدها بالمسئولية، ثمَّ كان للحرية بعد ذلك ألف ميلاد وميلاد؛ ذلك لأنَّها على مدى التاريخ ترددت بين الحلول والأفول، كلما وُلِدت وُئِدت، وكلما يئس الناس من عودتها بعثت من جديد، لكنَّ الميلاد الكبير لها كان على يد هذا الدين العظيم (الإسلام).
إنَّ أعظم ميلاد للحرية كان على يد هذا الدين العظيم، وإنَّ هذا الميلاد ليستمدّ عظمته من ذلك الاقتران الفذّ بين الحرية وبين قرينها الذي تقوم بقيامه وتنعدم بانعدامه: (التوحيد)، وإنَّ هذه العظمة زلزلت الدنيا وأذهلت العالم، إلى حدِّ شهود واقعتين لم تسعد بمثل واحدة منهما فقرة في تاريخ البشرية كله؛ فضلا عن أن يجتمعا فيها، الأولى: انهيار الدولتين العظميين آن ذاك (فارس والروم) ومعهما جميع ألوان السيادة الجاهلية التي كانت تمارس الاستعباد والاستبداد على العباد، وذلك على يد القوة الجديدة التي انطلقت من قاع الصحراء لا تملك من مقومات الغلبة إلا هذين: (الحرية والتوحيد) الثاني: ذوبان هذه الحضارات بثقافاتها المختلفة في الحضارة الإسلامية، وبتعبير (مونتوجمري وات): “كيف تحولت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية”(2)
والسرّ في هذه القوة التي يولدها هذا الاقتران هو أنَّ الإنسان خُلق ليكون عبداً لله وحده، كما قرر الحق جل وعلا بهذه العبارة الحاسمة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (الذاريات 56)، فلا سبيل لتحرير الإنسان إلا بتعبيده لله وحده بلا شريك، هذا هو المعنى الذي جعل الجهاد الإسلاميّ كله حركة تحرير كبرى؛ لذلك لم يتلعثم ربعي بن عامر في الإجابة على سؤال الطاغية (رستم): ما الذي أخرجكم من بلادكم؟ فقال: “الله ابتعثنا؛ لنخرج من شاء من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة”.
والقرآن كله في هذا الاتجاه، ليس فيه ما يُعَدُّ خروجاً عن هذا الخطّ، وكذلك السنة القولية والعملية، بل والشريعة كلها بكل ما اشتملت عليه من هدايات وتشريعات، والدولة الإسلامية والنظام الإسلاميّ قائم على أصول وأسس من الشورى وسلطان الأمَّة وسيادة الشرع؛ تدعم المضيّ في هذا الطريق النقيِّ السويّ، فلقد قامت الدولة في المدينة على علاقة عقدية شهد ميلادها بيعة العقبة الثانية، وورَّثها رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمّة، لا لأحد من أقاربه ولا لأحد من أصحابه، فترك الأمر شورى بينهم ولم يوص ولم يستخلف، رغم توفر الدواعي وانتفاء الموانع، وأمضاها الخلفاء الراشدون على هذا النحو، وفي اليوم الذي أراد فيه معاوية رضي الله عنه أن يجعلها بالتوريث وأن يأخذ البيعة لولده يزيد اعتبر الصاحبة هذا التصرف بدعة من بدع الجاهلية، فقام عبد الرحمن ابن أبي بكر وقال: “أهرقلية ؟ كلما هلك قيصر خلفه قيصر؟!”
كانت الحرية التي انتعشت في عهد النبوة وعصر الراشدين قد ذَبُلت وضَمُرت في عهود الحكم العضوض؛ فإنَّها لم تُحْرَم على مدى ذلك التاريخ الطويل من سواعد ميمونة ردت إليها الحياة وردتها إلى الوجود، حتى جاء الْمُلْك الجبرية؛ لتدفن الحرية، وليجلس على قبرها الاستبداد متوجاً بتاجها وموشحاً بوشاحها، وظلت الأمور على هذا النحو قروناً: حرية تحت الأرض وجبرية فوق الأرض، حتى هَبَّت نسائم التغيير المعاصرة قُبَيْل موجة الربيع العربيّ؛ لتكشف عن الحقيقة التي غفل عنها الجميع، وهي أنَّ الحرية التي دُفنت لم تمت، وأنَّها في باطن الأرض حية، تمدّ جذورها في أعماق الأرض، وتتهيأ لتخرج إلى الدنيا شجرة باسقة وارفة الظلال.
ذلك لأنَّها من قبل تحققت وتعمقت، وتأصلت وتجذرت، ونمت وأينعت، حتى أضحت مخلوقاً حيّاً يحمل في خلاياه سر الحياة، فإن لم تكن نخلة باسقة كثيرة العطاء كانت نواة صلبة تتحدّى الفناء، وهذا إنَّما بفضل الميلاد العبقريّ، وبفضل الدفعة الأولى، تلك الدفعة الفذة التي أخرجتها من نطاق الموت الأبدي والفناء السرمديّ.
لقد تحرر الإنسان بفضل هذا الدين من كل ما يسترقه في هذه الحياة، حتى من ذاته التي تستقر في مركز شخصيته، ولنتأمل – على سبيل المثال – هذا الحديث الذي هو أحد نصوص الحرية: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ، وَعَبْدُ الخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلاَ انْتَقَشَ، طُوبَى لِعَبْدٍ آخِذٍ بِعِنَانِ فَرَسِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَشْعَثَ رَأْسُهُ، مُغْبَرَّةٍ قَدَمَاهُ، إِنْ كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، كَانَ فِي الحِرَاسَةِ، وَإِنْ كَانَ فِي السَّاقَةِ كَانَ فِي السَّاقَةِ، إِنِ اسْتَأْذَنَ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ، وَإِنْ شَفَعَ لَمْ يُشَفَّعْ»(3).
إنَّ الحديث يضعنا أمام صورتين بينهما كما بين السجن الكئيب والفضاء الرحيب، فهذا عبد واقع في أسر العبودية للمال والمتاع والرياش؛ فهو لذلك تَعِسٌ مُنْتَكِس، مُتَكَسِّرٌ مُرْتَكِس، ليس في سعيه خير لنفسه “إذا شيك فلا انتقش”؛ فكيف يكون فيه خير لغيره؟! وعلى الجانب الآخر عبدٌ لله، قد تحرر من آسار العبودية وأغلالها، حتى تحرر من أسر الذات وأغلال الأنا، فهو محلق منطلق، آخذ بعنان فرسه في كل ما هو في سبيل الله، استوى عنده – لشدة تحرره – أن يكون في الحراسة أو في الساقة، فبلغ بهذا التحرر من الخير مَدى لا يُحَدّ، مَدى يتسع ويمتدَّ، كامتداد “طوبى” معنى ومبنى.
ولقد كان للحرية ميلاد في أوائل عصر النهضة، دفعت لأجله الإنسانية ثمناً باهظاً من دماء الأحرار المناضلين والشرفاء المجاهدين، وكادت أوربا أن تفعلها، لولا أنَّ خلو يدها من المنهج الربانيّ سهل طريق التلاعب بالحرية والخروج بها عن مسارها، وكان الانحراف والانجراف مبكراً إلى حدّ أنَّ الثورة الفرنسية التي رفعت شعار الحرية افتتحت عهداً جديداً ازدوجت فيه المطالب والمآرب، وبتعبير (فيشر): “إنَّ الجمهورية كانت حكومة فتح ودعاية، فإنَّ رغبتها الشديدة في فرض عقيدة سياسية على العالم وضرورات خزانتها الخاوية اتحدت على دفعها إلى سلوك طريق لعبت فيه دورا مزدوجاً: دور المبشر برسالة ودور اللص المغتصب”(4 )
وعلى مدى ثلاثة قرون ظلُّ مفهوم الحرية يتشكل ويتحور وينحطّ ويتدهور؛ بسبب انفصال قيمة الحرية عن قيم الإنسانية الأخرى وعن الفطرة الإنسانية ذاتها، وقد “قاد هذا الانفصال لهيمنة وسطوة القيم المادية، وشَكَّلَ حاضراً يركز على نمو اقتصادي غير محدود وغير متناسق، حيث حل إشباع حاجات الشراكات متعددة الجنسيات محل إشباع حاجات البيئة والشعوب الفقيرة”(5) وأضحت الحرية مطية للرأسمالية، تستعبد باسمها الخلق للشهوة والجنس تارة، ولزخرف الحياة تارة أخرى، حتى وقعت البشرية كلها في أسر العبودية لهؤلاء الشياطين الذين من شدة بأسهم وضراوة استبدادهم أوقعوا كل ما أنتجته ثورات العصر الكبرى في قبضتهم، بما في ذلك الوهم الضخم المسمى ب: (الدولة المدنية).
ولا تزال البشرية تنتظر ميلاد الحرية، فمتى وأين يتحقق لها ما تريد؟ ومن ذا الذي سيحظى بشرف بعثها من جديد؟ (6).
——————-
الهامش
1 راجع تفسير الطبري 1/452 ط مؤسسة الرسالة، والبحر المديد – للإدريسي 1/70 دار الكتب العلمية ـ ط الثانية / 2002 م ـ 1423 هـ
2فضل الإسلام على الحضارة الغربية “تأثير الإسلام في أوربا خلال العصر الوسيط” – مونتجومري وات – ترجمة حسين أحمد أمين – دار الشروق بيروت لبنان – ط 1983م صـــــــــ 19
3 صحيح البخاري (4/ 34)
4 هربرت فِشر، تاريخ أوربا في العصر الحديث، ت: أحمد نجيب هاشم، مصر، دار المعارف، ط 6 ص 31.
5 إيدموند . ج . بورن، التغير العالميّ من أجل بشرية أكثر إنسانية، ترجمة سماح خالد زهران – المركز القومي للترجمة – مصر – ط 2015م – الهيئة العامة للمطابع الاميرية صــــــ 116 بتصرف بسيط