لست أعني بدعوتي إلى (أنثروبولجيا قرآنية) أن يكون القرآن هو مصدر هذا العلم؛ فالقرآن لم ينزل ليكون كتاب علوم أو ديوان ثقافة أو دائرة معارف، وإنّما أعني أن يتخذ هذا العلم هوية قرآنية بانطلاقه من الأصول القرآنية؛ لكون القرآن كتابَ هداية للإنسان، ولكون الإنسان موضوعَ هذا القرآن، أمّا العلم ذاته فيطلب بالبحث والدراسة عبر مناهج علمية معتمدة، سواء كانت مناهج قياسية منطقية أو معملية تجريبية أو تحليلية عقلية أو استطلاعية ميدانية، وقد وجَّهَنَا القرآن إلى السعي والنظر والضرب في الأرض لاستكناه أسرار الخلق، فقال: “قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ” (العنكبوت 20)، والاستفادة من الغير والاقتباس من الآخرين بالضوابط الشرعية والعلمية العامة يُعَدُّ ضرورةً تحتمها طبيعة العمران البشري، كما يحتمها الدور الرِّساليّ للأمّة الإسلامية؛ وقد جاء في الخبر: (الحكمة ضالة المؤمن)، والانطلاق من القرآن فيما يتعلق بالإنسان ضروريّ للاستفادة من هذا العلم الكبير بكل شُعَبه؛ لأنّه في أوربا ينطلق من التربة الحداثية التي تنظر للإنسان على أنّه سيد هذا الكون، وأنّه في صراع مع الطبيعة بل ومع الإله، ومن الفكر القوميّ الحديث الذي تسيطر عليه العنصرية للإنسان الغربيّ؛ مما ترتب عليه أن هذا العلم آتى ثمارا مختلطة بعضها طيب وبعضها خبيث.
دراسة شمولية:
والأنثروبولجيا علم يدرس الإنسان (كإنسان) دراسة كلية شمولية، ذات أبعاد نفسية واجتماعية وثقافية وتاريخية وبيولوجية طبيعية، تهدف إلى إبراز خصائصة وتطوره وعلاقاته بما حوله واتجاهات سلوكه، هذا العلم يحاول دوما أن يتصل بجميع العلوم الإنسانية ويرتبط بها، فله صلة بعلوم النفس والاجتماع والبيولوجي والتاريخ والطب والسياسة والاقتصاد وغيرها، لكنه لا يستغرق في فروعها، وإنّما يأخذ منها ما يسهم في تكوين فكرة عامّة وكلية عن هذا الفرد من أفراد العائلة الحيوانية، ومع نمو وتطور هذه الصلة صار له فروع متخصصة، كالإنثروبولجيا الثقافية والأنثروبولجيا الاجتماعية والأنثروبولجيا البيولوجية والأنثروبولجيا التاريخية وغيرها، غير أنها جميعا تصب في غاية واحدة هي فهم طبيعة هذا الكائن بصورة كلية عامة شاملة.
هذا العلم ظهر في أوربا في وقت متأخر قليلا، وتأثر بصورة كبيرة بالفكر الحداثيّ، وتأثر كذلك بالنزعة الاستعمارية الإمبريالية، وبالروح العنصرية الغربية؛ حتى صار الرجل الغربيّ بالنسبة لهذا العلم دارساً وغيره من الجنسيات الأخرى محلاً للدراسة، وصار العلم أداة لاستطلاع المستعمرات واستشفاف مواقف أهلها، لكنه بعد ذلك تطور ونحا إلى التجرد كثيرا، ثم اتجه أخيرا إلى تخصصية مستغرقة توشك لشدة تشعبها أن تذهب بعيدا عن أهداف هذا العلم ومراميه، وتخفق في الكشف عن الطبيعة الإنسانية الكلية!
ولكي تتم الاستفادة من هذا العلم البالغ الأهمية لا بدّ من العودة إلى كتاب الله تعالى والانطلاق منه؛ لأنّ القرآن الكريم كتاب هذا الإنسان، جاءه من ربه وخالقه، يهدف إلى إصلاحه وإسعاده، ويقصد إلى الأخذ بيده ليقوم بواجباته ويؤدي وظائفه ومهامه التي خلق من أجلها، وليس ثَمَّ أعلم بالعباد من خالقهم، قال تعالى: “أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ” (الملك 14)، أي: ألا يعلم الخالقُ مَخْلُوقَهُ، وإذا كان الإنسان هو موضوع هذا القرآن فلا ريب أنّ القرآن تحدث عنه حديثا يعطي خطوطا عامة وقواعد كليه يبنى عليها علم رشيد؛ فالانطلاق من القرآن في هذا الشأن رشد وسداد بل إنّه ضرورة حتمية.
إنّ العودة إلى القرآن وإعادة تنظيم هذا العلم في ضوء معطياته بمثابة طفرة هائلة ووثبة عملاقة قادرة على تغيير كل مسارات هذا العلم واتجاهاته؛ لأنّ ما يقرره القرآن من حقائق كبرى تتعلق بالإنسان تناقض تمام المناقضة الخطوط العريضة والمنطلقات الرئيسية التي تدور حولها الأنثربيولوجيا بكافة فروعها، فالإنسان ليس سيدا لهذا الكون، رغم ما يتمتع به من كرامة، وإنّما هو خليفة لله مستخلف في أرض الله مكلف بعمارتها وفق منهج الله، قال تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة 30)، “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود 61)، والإنسان مخلوق لله ابتداء، خلقه الله تعالى خلقة مبتدأه، ولم يتطور عن سلالة حيوانية، قال تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ” (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ” (الحجر 28-29)، “قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ” (ص 75)، والناس جميعا من أصل واحد، أبوهم واحد هو آدم عليه السلام؛ فهم لذلك في الأصل سواء لا يتفاضلون إلا بما قدموا، قال تعالى: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا” (النساء 1)، “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا” (الأعراف 189)، “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات 13).
ثنائي التكوين:
وطبيعة الإنسان ليست طبيعة حيوانية بحتة وتكوينه ليس تكوينا ماديا محضاً، وإنّما هو مزدوج الطبيعة ثنائي التكوين، فهو قبضة طين ونفخة روح: (إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي (72)) (ص 71-72)؛ فحاجاته الروحية موازية لحاجاته الجسدية، والتنسيق بينهما بما لا يضر بأحدهما ولا يعطله ضرورة إنسانية، ومصير الإنسان لا ينتهي بانتهاء حياته على هذه الأرض وفي هذه الدنيا، وإنّما يمتد مصيره إلى الدار الآخرة التي ترتبط بالدنيا ارتباط الحصاد بالغرس: “يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ” (الانشقاق 6)، “كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ” (البقرة 28)، “زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” (التغابن 7).
وعلاقة الإنسان بالأرض والطبيعة والكون والحياة ليست علاقة صراع ومغالبة لطبيعة متوحشة بليدة، وإنّما هي علاقة الاشتراك في العبودية لرب واحد؛ فهي علاقة ملؤها الود والمؤانسة: “أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ” (الحج 18)، وكل ما حول الإنسان، وجميع ما فوقه وما تحته مسخر له ومذلل لخدمته: “هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ” (الملك 15)، “وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ” (الجاثية 13)، “هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا” (البقرة 29)، ورزق الإنسان مكفول له في هذه الأرض: “وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ” (فصلت 10).
والإنسان في القرآن مخلوق مكلف ومسؤول، ذو عقل وعلم، وله قدرة وإرادة حرة، لكن عقله لا يحيط علماً بشأن الله، وإرادته وحريته لا تتعدى حدودها تجاه شرع الله: “عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” (الرحمن 5)، “وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا” (البقرة 31)، “يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، (البقرة 255)، “يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا” (طه 110)، “وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف 29)، “وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا” (هود 7)، “لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (التكوير-28-29)، “ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ” (التغابن 7).
التصورات العامة:
أمَّا التطور في عقائد الإنسان فليس بإطلاق كما هو في الفكر الغربيّ، فالتطور واقع خارج دائرة الإسلام، لأنَّ الإسلام دين بني آدم من أول لحظة نزل فيها الإنسان على الأرض، واستمر دينا ارتضاه الله للإنسانية إلى يومنا هذا، وليس صحيحا أنّ الإنسان (جنس الإنسان) تطور في تدينه من عبادة الطواطم والنجوم إلى عبادة إله وراء الطبيعة إلى الحداثة المعاصرة، قال تعالى: “قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ” (البقرة 38)، “فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ” (الروم 30)، “وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ” (فاطر 24)، “وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ” (النحل 36)، “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ” (الحديد 25)، “(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ” (البقرة 213)، أي أنّ الناس كانوا أمّة واحدة على التوحيد فاختلفوا فبعث الله النيين بالحق ليحكم بينهم فيما اختلفوا فيه.
إنّ انطلاق علم أنثربولولجيا جديد يأخذ من القرآن التصورات العامة والأصول الكلية، ويستفيد من كل جديد مفيد لا يتعارض مع القرآن ولا يتنافى مع قواعد الشريعة وأحكامها الثابتة؛ سيكون له أثر كبير في إعادة رسم الخريطة الذهنية لتصورات الناس عن الجنس البشريّ؛ بما يسهم في تحقيق السعادة التي هي مقصد من مقاصد الكتاب العزيز، وفي هذا فليتنافس المتنافسون.