نهاية التاريخ بين قراءات الإسلاميين والغربيين

“ما أسرع ما تجذرت بصورة لا رجعة عنها قوى العولمة ورأسمالية السوق الحرّ”[1]؛ عبارةٌ لخَّصَت فيها “نورينا هرتس” حجم الانزعاج الذي يسيطر على العقلية الغربية اليوم من تغول الرأسمالية العالمية وهيمنتها على الأمم؛ بما يهدد الديموقراطية، ويهدد كذلك مستقبل الإنسانية على الكوكب الأرضيّ كله؛ فمن أين أتى “فوكوياما” بنظريته التي أوجزها في مقاله بمجلة: (The National Interest) عام 1989م بعنوان: “نهاية التاريخ” ثم بسطها بإسهاب مُمِلٌّ في كتابه الشهير: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”؟!!

لقد بالغ فوكوياما في التجديف العنيف منتشياً بالانتصار السهل الذي حققته الليبرالية الغربية على الماركسية، التي كانت وقتها تلفظ أنفاسها الأخيرة؛ لتنهار قبل انصرام القرن العشرين، وتنهار بانهيارها كل قواعد اللعبة التي كانت تدير الدنيا في ظل الحرب الباردة. فهل كان فوكوياما – وهو يؤصل لفكرة انتهاء التاريخ الإنسانيّ على شاطئ الديمقراطية الليبرالية – يدشن فكرياً وتنظيرياً لميلاد عالم جديد تكون فيه أمريكا هي القطب الوحيد الذي يدور حوله الكوكب الأرضي كله راضياً أو راغماً؟

وهل كان يمارس التخدير لشعوب العالم الثالث وهو يحاول في صفحات عديدة أن يجيب عن تساؤل يقول: إذا كانت الرأسمالية الليبرالية هي نهاية التاريخ فلماذا تعاني بلاد العالم الثالث من الفقر في ظل هذه الرأسمالية بسبب التبعية من الدول الفقيرة للدول التي تهيمن على العالم بنظامها الرأسمالي الليبراليّ؟ ويعصر قلمه عصراً ليقطر في سطور بعض ما يظنه أنّه يرضي الجمهور ويلجم المتسكعين المتشككين منهم[2].

لا تعجب إذا علمت أنّ “فرانسيس فوكوياما” نفسه قد كتب مقالاً مهماً في عام 2012 بمجلة: (Foreign Affairs) بعنوان: “مستقبل التاريخ” أبدى فيه قلقه على مستقبل الديمقراطية الليبرالية؛ بما اعتبره الكثيرون تراجعاً منه عن نظريته الأولى، وبما أظنه ويظنّه الكثيرون أنّه صورة من صور التقلب في الفكر الغربيّ، الذي كثيراً ما يخضع للشَرطية التاريخية والواقعية التي تفرض سلطانها على الفكر المفتقد لمقومات الثبات.

ولا يملك أحد أن يدفع الشواهد الواقعية التي تثبت أنّ الديمقراطية الليبرالية في خطر بسبب هيمنة رأس المال، إلى حدّ أنّ آليات الديمقراطية الأكثر قدسية تتعرض للتلويث المباشر. فعلى سبيل المثال: “في ولاية فلوريدا الأمريكية وقبل انتخابات 2000، تم شطب أسماء 57.700 من الزنوج، ولم تتحدث عن هذه الفضيحة إلا جريدتي “الجارديان” و”الأوبزيرفر” البريطانيتين والمملوكتين لشركة لا تسعى للتربح؛ فأين كانت الصحافة الأمريكية؟! وهل عمي عن هذه الحقيقة ما يقرب من 100.000 صحفي أمريكي المفترض أنهم قاموا بتغطية هذه الانتخابات؟![3]

إنّ الهوس بنظرية “نهاية التاريخ” سمة عامّة في البيئة الغربية عموماً، فلقد كان هيجل يعتقد أنّه هو بفكره الديالكتيكي نهاية التاريخ، وكذلك ماركس الذي اعتبر أنّ سقوط “البُنْيَة الفوقية” وانزلاق “البرجوازية” تحت أقدام “البروليتاريا” وعودة المجتمعات إلى شيوعيتها الأولى هو نهاية التاريخ، وها نحن قد رأينا كل هذه النظريات قد هوت، وإن كان بعضها لا يزال على أرض الواقع قائماً تسنده الآلة الغربية الاستعمارية الجبارة.

وليس المجال اللاهوتيّ في الغرب ببعيد عن هذا المرض الذي تبدو عليه مسحة ميتافيزيقية في عالم ماديّ غارق في اللادينية، فها هم رجال الدين البروتستانت الصهاينة يبشرون بمعركة “هرمجدون” التي تدور رحاها بالشام، والتي فوق أشلائها وثبج دمائها ينتهي التاريخ مُسَلِّماً الراية للمسيح الذي سيخلص العالم بأسره من جميع أدرانه، والذي لم يسعفهم الوقت لحسم هويته: أهو المسيح الذي لم يُبعث بعد وتنتظره يهود؟ أم هو المسيح الذي سيعود للخلاص الأخير كما تدّعي المسيحية؟! واكتفوا في هذه المرحلة التي ستفنى بعدها الأمة الكنعانية (العرب!) أن يكون هناك اتفاق بين الفكر البروتستانتي الأنجلوسكسوني والفكر اليهودي الصهيونيّ على أنّ القدس هي مرجعه ومبعثه ومنطلق دعوته، وإذا كان غريباً أن يهلوس بهذه السخافات أمثال جيمي سواجرت وجيري فالويل وغيرهما من القساوسة؛ فكيف الأمر بزعماء سياسيين كبار؟! فقد تحدث تسعة من رؤساء أمريكا “الديمقراطية!” في مناسبات عدة عن “هرمجدون” كما ذكرت غريس هالسل في كتابها الأكثر أهمية “النبوءة والسياسة”.

فإذا أضيف لهذا الدجل الميتافيزيقيّ الغارق في الدموية المشرعنة صعود اليمين المحافظ في الغرب بشكل مرعب، ولاسيما في البلاد التي تعد من أقدم وأعتى الديمقراطيات؛ يكون التشاؤم قد وجد له في العقلية والنفسية الغربية أرضا خصبة لينمو ويشتد؛ لأنّ هذا بمثابة التلاقي بين النصوص الدموية المقدسة وبين القوة التدميرية الجبارة التي صارت تمتلكها الأمم في الغرب، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه انتحار العالم، وإن كان “ريتشارد كوك” وزميله قد حصرا التخوف على الغرب، في كتابهما المعنون بهذه العبارة: “انتحار الغرب” والذي بلغا فيه ذروة التشاؤم في هذا النص: “وهناك نص فرعيّ أشدّ ظلمة، وهو يكمن في الحماسة التبشيرية والتطرف الثوريّ المورث للغرب والعالم من المسيحيين الأوائل، إنّ موروثات العدوان الصليبيّ المنحرف، والمدعومة بالعلم والتقنية وأقوى النظم الاقتصادية والعسكرية التي شوهدت في أيّ وقت قد قوت الغرب بقوة شديدة وأدت في القرن التاسع عشر للهيمنة على العالم، وفي النصف الأول من القرن العشرين مزّقت هذه الموروثات المنحرفة الغرب تقريباً ومن ورائه العالم إلى أجزاء، وحين يعاد توحيد مورثات التعصب المفرّق مع الأصولية الدينية؛ فإنّ هذه المورثات تبقى تهديداً قوياً للغرب، لا من الخارج فقط بل من الداخل الذي يعتبر أكثر تهديداً”[4].

ولست أستبعد عودة الحروب التي تسببت فيها الخلافات المذهبية لتمزق القارة الأوربية وتمزق العالم معها، وهذا ما يخشاه كثير من المفكرين في الغرب، والسبب في ذلك كما يقول “غوستاف لوبون”: “إنّ عدم التسامح بين المعتقدات المتقاربة يكون أشد مما بين أنصار المعتقدات المتباعدة”[5]، وهذا ما حدث في تاريخ المسيحية كثيراً، فمن المعلوم “أنّ الكنيسة الرسمية في الدولة الرومانية الشرقية قد ذهبت في معاداتها للمسيحيين الذين يخالفون رجالها في التفكير أبعد مما ذهب إليه الإسلام بالنسبة لأهل الذمة؛ إذ لما أعاد الإمبراطور نقفور افتتاح بلاد الشام في القرن الرابع الهجريّ كان مما وعد به أهل الشام وأمنهم به أن يحميهم من مضايقة كنيسة الدولة، لكنه رغم هذا الأمان لم يأل جهدا في مضايقة اليعقوبيين”[6]؛ فإذا ما كان الأمر كذلك وتمّ تحميله على ظهر خرافة نهاية التاريخ التي تهيمن الآن على العقلية الغربية فإنّ حجم الدمار في العالم الغربيّ نفسه سيكون هائلاً.

وليست الأمّة الإسلامية بسالمة من هذه اللوثة المدمرة؛ فها هي الطائفة الشيعية ومِنْ حولها الفرق الباطنية المنبثقة عنها تصول وتجول بميلشياتها في أرض السنة المكلومة؛ تبغي التمكين للمشروع الصفويّ واستعادة دور المجوس في المنطقة، لكن عن طريق امتطاء ظهر الطموح الشيعيّ الذي يقتات الانتظار للمهدي المنتظر الإمام الثاني عشر الذي سينتهي التاريخ مع استقرار حكمه، وهذا المهديّ الذي ينتظرونه يختلف عن المهدي الذي يقول به بعض أهل السنة، غير أنّ أهل السنة لا يعتبرون ظهوره نهاية التاريخ ولا حتى عودة المسيح ليحكم بالإسلام؛ إذ إنّ الأخبار تواردت بأنّ شرار الناس من تدركهم الساعة وهم أحياء، وبأنّ الأرض سينتشر فيها الكفر بعد وفاة المسيح عليه السلام، وهذا من أهم ما تفترق فيه السنة عن الشيعة، ومع ذلك فليس كل أهل السنة يعتقدون في المهديّ.

أمّا الإسلام فهو من ذلك الهوس الْمُدَمِّر بريء، فالقرآن الكريم حدثنا عن سنن للتمكين ثابتة لا تحابي أحداً، وعن قوانين تحكم النشاط الإنساني كافّة، من هذه السنن: سنة التداول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران 140) وسنة التدافع: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة 251) وسنة الاستخلاف المشروط: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور 55) وهذه السنن وغيرها دوارة مع شروطها؛ ومن هذا أخذت صفة الثبات والديمومة: (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب 23).

وبعيداً عن التنبؤات والمعتقدات الداعية للانتظار؛ فإنّ الدراسة الواقعية المبنية على رصد الواقع واستقراء الإحصائيات والظواهر تثبت أنّ الأمم بعد انتهاء الحرب الباردة طفقت تهاجر قافلة إلى ثقافاتها وهوياتها التاريخية، بما في ذلك الغرب كله الذي صعد فيه اليمين المحافظ، وهذا ما حاول أن يثبته “صموئيل هنتجتون” في كتابه العابر للقارات “صدام الحضارات” فإنّ ” الثقافة والهويات الثقافية – والتي هي على المستوى العام هويات حضارية – هي التي تشكل أنماط التماسك والتفسخ والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة”[7] أمّا “فكرة الحضارة العالمية فلا تجد سوى القليل من التأييد في الحضارات الأخرى، فما يراه الغرب عالمياً أو كونياً يراه غير الغربيين غربياً، وما يرحب به الغربيون كتكامل كوني حميد مثل انتشار الإعلام على مستوى العالم يستنكره غير الغربيين كاستعمار غربيّ شائن”[8] ومن الملاحظ أنّ “التحركات من أجل الإحياء الدينيَ معادية للعلمانية والعالمية ومعادية للحضارة الغربية أيضاً، فيما عدا تجلياتها المسيحية”[9].

ولم يغفل هنتنجتون العالم الإسلاميّ وهو الذي أصدر كتابه مع بزوغ شمس العدالة والتنمية في تركيا؛ فها هو يُلَمِّحُ ويُلَوِّحُ: “إنّ دولة مركز إسلامية يجب أن يكون لديها موارد اقتصادية وقوة عسكرية وكفاءة تنظيمية وهوية إسلامية، والتزام بأن تكون قيادة سياسية ودينية للأمّة”[10] ثم ها هو التصريح بعد التلميح والتلويح: “ماذا لو أعادت تركيا تعريف نفسها عند نقطة ما؟ يمكن أن تكون تركيا مستعدة للتخلي عن دورها المحبط والمهين كمتسول يستجدي عضوية نادي الغرب، واستئناف دورها التاريخيّ الأكثر تأثيراً ورقياً”[11].

ونحن المسلمين بين هذه التدافعات الفكرية على موعد مع العمل المتوافق مع سنن التغيير، لا مع الانتظار الذي لا يحسنه إلى النفوس المحبطة أو العقول الضعيفة.

الهامش
[1] السيطرة الصامتة، الرأسمالية العالمية وموت الديمقراطية، نورينا هيرتس، ترجمة صدقي خطاب، عالم المعرفة عدد 336، ط 2007م صــــ 23

[2] راجع: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فرنسيس فوكوياما، ترجمة فؤاد شاهين وآخرين، مركز الإنماء القومي، لبنان ط 1993م صــــــ 116-123

[3] راجع: أفضل ديمقراطية يستطيع المال شراءها، غرين بالاست، الدار العربية للعلوم، ترجمة مركز التعريب والبرمجة، ط أولى 2004م، صــــــ19-21ـ

[4] انتحار الغرب، ريتشارد كوك ، كريس سميث، ترجمة محمد محمود التوبة، ط أولى 2009م العبيكان السعودية ص 88-89

[5] روح الثورات والثورة الفرنسية، غوستاف لوبون، ترجمة عادل زعيتر، مؤسسة هنداوي، القاهرة، بدون تاريخ صــــــــــ34

[6] الحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر، آدم متز، ت: محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي، بيروت- ط الخامسة 1/ 89

[7] صدام الحضارات: إعادة صنع النظام العالميّ، صمويل هنتنجتون، ت: طلعت الشايب، ط ثانية 1999م صـــــــ 37

[8] صدام الحضارات، مصدر سابق، ص 109

[9] صدام الحضارات، مصدر سابق، ص 166

[10] صدام الحضارات، مصدر سابق، ص 289

[11] صدام الحضارات، مصدر سابق، ص 291