نهاية السيسي؟!

متى سينتهي السيسي؟ ليس استفهاما عن الزمان والتوقيت، ليس سؤلاً يغذي الاستسلام للأوهام، وإنّما هو استدعاء للحالة الوحيدة التي إن تحققت لنا فسوف ننجح في إسقاط السيسي، الحالة الوحيدة والوضع الوحيد الفريد الذي يجب أن نكون عليه ليَسْهُل إسقاطه والقضاء عليه، إنّه استدعاء واستجداء دافعٌ للعمل لا للجدل، إنّه نداءٌ جوابُهُ السعيُ لإكمال الشروط وإبطال الموانع، السعي لاتخاذ الأسباب التي لا يسقط حاكم خائن وعميل ومستبد وغشوم إلا بها؛ فما هي الأمور التي إن توفرت لدينا كنّا مؤهلين للمسير إلى التحرير متوكلين على اللطيف الخبير؟ ومستبشرين بالوعد الربانيّ: (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران 160).

    إنّ الفرصة اليوم مواتية لإسقاط هذا (العار) الجاثم فوق رأس مصر وصدرها، هناك عشرات الأسباب التي تجعل سقوطه سهلا وشيكا، آخرها الخيانة العظمى التي ارتكبها عن عمد مع سبق الإصرار؛ بتضييعه لحق مصر في ماء النيل، عبر سلسلة من الإجراءات التي تطغى فيها أمارات العمالة والنذالة على علامات الغباوة والبداوة، ثُم محاولتُهُ الزجَّ بأبناء الشعب المصريّ في حرب بصحراء ليبيا لا يعلم أحد لها نهاية ولا غاية، اللهم إلا أن يكون مصيراً كمصير جيش (ناصر!) في حرب اليمن، ذلك المصير الكئيب الذي حُفِرَ في ذاكرة الشعب بخناجر أعراب اليمن البسطاء المعتدى عليهم.

    إنْ لم نتحرك اليوم لإسقاط هذا (الجيفة) فسوف تتغير سنة الكون لتمنح الحياة للجيف المنتنة، وتمنح النيام الموتَ الزؤام، إنّ الفرص لا تتسول الغافلين ولا تقف على أبوابهم تستجديهم أن يمتطوا ظهرها، وإنّما هي حصان جامح؛ إن لم يجد فارسا وَثَّابا يهتبل اللحظة السانحة فسيمضي غير نادم ولا آسف، وعلى النادمين لفواته أن ينتظروا دورة الزمان؛ فإنّه لا ريب دَوَّارٌ، ولكنّه بطيءٌ؛ قَلَّمَا يجود بالفرص.

    لست أقلل بحال من تمكن القبضة الأمنية لهذا الطاغية، ولست مستهينا بما حققه في الفترة الماضية من تغول على جميع السلطات وتوغل في كافّة الأجهزة، ولا بما ظفر به من اعتياد المجتمع الدوليّ رؤية وجهه الذي لا نظير له في السماجة؛ مما منحه شرعية كشرعية استيطان الأفاعي للأدغال والأحراش، وما كان لنا أن نستهين بذلك كله أو نلوي أعناقنا عنه، لكن مع ذلك لا يصح أن نغفل عن عوامل الضعف التي تنخر في جسد نظامه كما ينخر “الفيروس” في كبد المريض؛ فإنّه والله لضعيف هشّ برغم ما يبدو عليه من استقواء وانتفاش، وإنّ سقوطه وانعتاق الكوكب الأرضي من ظلّه الكئيب لوشيك قريب، غير أنّنا فقط – من وقع الهزيمة – لا نرى الوجه الآخر للحقيقة!!

    دعونا ندخل في صلب موضوعنا فإنّ كل ما سبق إنّما هو فقط تذكير بما هو معلوم في الأصل: كيف السبيل إلى إسقاط هذا الخائن العميل؟ للإجابة على هذا السؤال يجب أن نحدد عناصر التغيير الحقيقية المتوفرة الآن في الشعب المصريّ؛ ثم نذهب إلى الطريقة المثلى لتفعيلها مع استصحاب العوامل أو المقومات الرئيسية للنجاح في التغيير، واضعين نصب أحيننا المخاطر وكيفية تلافيها أو التخفيف منها.

    إنّ حالة الغضب مع الخوف والتوجس على حاضر البلاد ومستقبلها هو الشعور الذي يملأ قلوب الملايين من أبناء هذا الشعب ممن لا يزال لديهم حسّ وطنيّ وإسلاميّ وإنسانيّ، هذا الشعور المركب هو الطاقة الدافعة، هذه الطاقة المتوارية خلف حاجز إرهاب الدولة لو وجدت من يغذيها ويوجهها ويفتح له قناة تتدفق فيها ويحسن استثمارها لأحدثت زلزالا هائجا مزمجرا، لاسيما وأنّ هذا الشعور ليس غامضا ولا مبهماً، ولكنه واع ويقظ ومشبع بالمعلومات والبيانات والمفردات التي تمده وترفده باستمرار بما يغذيه ويقويه.

    كما أنّ هذا الشعور المركب (الغضب المشبع بالخوف على الحاضر والمستقبل) نهر متدفق يتصل دوماً بمنابعه وروافده التي لا تجف ولا تنضب ولا تتوقف عن الجريان والهيجان، فالقهر والكبت وتكميم الأفواه وإذلال الرجال رافدٌ دافق، والاستهانة بحياة المواطنين وصحتهم التي وصلت إلى حدّ الإهدار المتعمد رافدٌ آخر أشدُّ تدفقا، والغلاء المتصاعد – في ثورة محمومة على الاستقرار المعيشيّ مع حالة الإفلاس الحقيقية المتمثلة في الديون والكساد والانهيار الاقتصاديّ – مَنْبَعٌ فوار ورافدٌ موّار، ورائحة الخيانة والعمالة التي أعطنت الأجواء ولوثت الأرجاء – مع بجاحة وتناحة – مصدرٌ كبير وخطير، أضف إلى كل ذلك الظلم البَيِّنَ للكادحين؛ بما جعل خط الفقر ينزاح وينداح ليسقط تحته أكثر من نصف الشعب.

    هذا الشعور الضخم بركان هائل، تسبح فوق أمواجه المكتومة وتياراته المحمومة قشرة الأرض التي تكسو المليون كيلو متر مربع التي يشقها النيل المشرف على الجفاف، وهذا البركان له وكاء معلوم مرئيّ مشاهد بالعين ملموس بالحسّ، هذا الوكاء إذا وجد يداً حصيفة تحل رباطه وتفك وثاقه فسوف ينهار لينفجر البركان مطيحاً بالظالمين البالغين من الإجرام حداً لا تطيق السماوات والأرض المقام معه، الظالمين للعباد ظلماً (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا) (مريم 90).

    و(شفرة) الوكاء التي ينفرط بها عقده هي “إسقاط الهيبة”، فلو أنّ هذا النظام المجرم سقطت هيبته في قلوب الجماهير لانهار انهيارَ “الباستيل” في الثورة الفرنسية، إن هيبة النظام الغاشم كسفينة عملاقة تمخر الأمواج العاتية ولكن قاعها مهترئ؛ فلو امتدت أياد ميمونة إليه لخرقته وأغرقتها، واليد الميمونة هي اليد الموكول بها إسقاط الهيبة وفك عقدة الوكاء، وإطلاق الجماهير من عقال الخوف والرهبة؛ وعندئذ تشتعل الثورة التي يسمونها في أدبيات التغيير الحقيقيّ: (المقاومة الشعبية)، إن لم تكوتوا تعرفونها فاسألوا عنها أجدادنا الذين واجهوا الحملة الفرنسية وردوا نابليون – الذي دوخ أوربا كلها – على عقبيه خائبا.

    ولماذا لا يحدث هذا؟! أهو حرام أو عدوان أو ظلم أو إرهاب؟ كلا والله بل هو واجب الوقت، واجب ينظمه الكبار العالمون حتى لا يعبث به الصغار العابثون، لا تَقُلْ إنّ المقاومة لا تكون إلا لمواجهة المحتل؛ لا تقل هذا فتُتَّهمَ بالغباوة وأنت اللبيب الأريب! وهل هؤلاء الحكام وأجهزتهم إلا أدوات الاحتلال؟! وهل نحن إلا شعب قابع تحت وطأة الاحتلال بالوكالة؟! وهل ثَمَّ دليل على أنّ الاحتلال بالوكالة أشد ضرراً على العباد والبلاد من أنّ الاحتلال الانجليزيّ المباشر هو الذي أبرم لمصر اتفاقية 1902م التي جعلت لها نصيب الأسد في ماء النيل، بينما الاحتلال بالوكالة ضيع حق مصر في النيل باتفاقية إعلان المبادئ في 2015م؟!

    المهم هو أن نصون البلاد من الدعشنة، ومن الانزلاق إلى حرب أهلية، ومن فَتْح الباب للعدوان على حقوق الآدميين، ومن إعطاء النظام الفرصة لجر البلاد إلى فوضى يتخذها ذريعة لاستنساخ تجربة المجرم عدو الله بشار، أو إعطائه المبرر للاستعانة بالتدخل الأجنبيّ، ومِنْ إنتاج بيئة للتناحر والتقاتل بين عصابات يربطها التمويل الخارجيّ بالمخربين في الإمارات وغيرها، ومن خَلْق جو للغلو يجعل من السلاح في أيدي الناس وسيلة لتصفية حسابات بَيْنِيَّةٍ رخيصة، أقول وأُكَرِّرُ: المهمُّ هو أن نحفظ البلاد من هذه الشرور كلها وغيرها مما قد يحدث على أثر منح الثورة أظافر ومخالب وأنياب.

    وكل هذه المخاطر واردة الحدوث، وممكنة الوقوع، والتجارب الواقعية أكبر شاهد على هذا، وإذا لم تكن الثورة على حذر منها فسوف تكون بوابة للثورة المضادة، وربما لتخريب البلاد وتشريد العباد، بل وذريعة للتدخل الأجنبيّ وإعادة تقسيم المقسم، ومن هنا نقول إنّه لا يمكن حدوث مقاومة رشيدة سديدة إلا عبر ثورة عامة لها قاعدة منظمة تضمن سلامة التوجه، ولها قيادة موحدة تعرف متى تقدم ومتى تحجم، ولها مشروع ورؤية، عندئذ نضمن عدم وقوع شيء من تلك المخاطر التي نخشاها.

    وهذا يقودنا إلى ضرورة التَّوَحُّد لدى المسئولين عن إدارة المشهد، وفي مقدمتهم الإسلاميون بالخارج، الذين لديهم الوقت والْمُكْنة للجلوس والتفكير والتدبير، وليس لدينا خيار آخر يسعنا الذهاب إليه، إنّما هو طريق واحد، طريق “المقاومة الشعبية” التي تملك الْمِثْقاب الذي يخرق قاع سفينة النظام المجرم المحتل، المقاومة الرشيدة السديدة التي تمضي وراء قيادة موحدة متماسكة، ووفق خطة حكيمة تضمن عدم الذهاب إلى تلك المخاوف التي نخشاها جميعاً.

    هذا هو الطريق ولا طريق غيره، برغم المخاطر التي تحفه، والتي يلزمنا حتما الاحتراز منها، مع العلم أنّه يمكن – بل من المرجح – أن تقع كل الشرور والمفاسد تلك إذا لم نبادر بتحريك المشهد بأيدينا قبل أن ينفجر البركان في وجه الجميع أو تفجره أيدي العابثين؛ ثم لا يدري أحد من أين تأتي رياح الفتن، إنّ المسئولية ملقاة بالدرجة الأولى على الكبار، ولعل غياب الكبار عن المشهد في سوريا وغيرها هو الذي قلب المقاومة إلى ذلك الاحتراب الرخيص المهين، هذا هو الطريق، فإن لم تصدقوني فاسألوا التاريخ كيف سقط الباستيل في مشهد يعد رمز التحول والتحرر.

    وفي ثورة يناير لولا الأظافر التي خمشت وجه النظام والأسنان التي عضت أنامله وتلك الأدخنة التي تصاعدت من مقار الحزب ودوواين الشرطة ما سقط مبارك ولا اضطر العسكر للتخلي عنه ولو مكث الثوار في التحرير أحقابا، وبهذه الأظافر والأنياب كان النجاح حليفا لثورات أوربا بأجمعها ابتداء من تمرد مدن الإدرياتيكي على الامبراطورية الرومانية المقدسة، ومن قبلها المعارضة الخشنة من نبلاء انجلترا للملك؛ مما أثمر: “الماجنا كارتا”، ومرورا بالثورات الإنجليزية ثم الأمريكية فالفرنسية، وانتهاء بالثورة البلشفية.

   وأسوق مثالا واحدا من أقوال المؤرخين: يقول كبير المؤرخين “فشر” عن حادث سقوط الباستيل: “بَيْدَ أنَّ الاستيلاء – برغم تدنسه بالجريمة – على ذلك السجن القديم الذي في  أطراف باريس وهَدْمَهُ كان عملاً سياسيا فذا ورائعاً؛ ففي طول أوربا وعرضها هلل الناس وكبروا؛ مرحبين بسقوط الباستيل كخاتمة للطغيان المستتر والسجن الظالم المستبد، وكبشير لبزوغ فجر الحرية”([1]).

   علينا أنّ نقتنع أولا بأنّ السيسي وأجهزته يفعلون بالبلاد والعباد ما لم يفعله الاحتلال الانجليزيّ، وأنّ الاحتلال بالوكالة أشد خطرا على حاضر البلاد ومستقبلها من الاحتلال المباشر، وأنّ مواجهتنا له هي في الحقيقة مواجهة للاحتلال الذي لم يخرج بعد، وأن معركة التحرير التي بدأتها الشعوب قبل قرن من الزمان تم تنويمها وتعويمها، والآن تستيقظ من جديد، فإذا أيْقَنَّا بذلك وجب في الحال ما لا مناص من وجوبه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ) (الأنفال 60).

    فمن كان في ريبة من هذا فليطرح علينا رؤيته، بشرط أن تكون واقعية ومقنعة، ولا يُزايِدَنَّ أحدٌ على شريعة الله تعالى ولا على وسطية الإسلام؛ فإنّ هذا الطرح نابع من قلب الشريعة ومن وسط الدين لا من الأطراف أو الحواشي البعيدة. والله المستعان على كل حال.


([1]) تاريخ أوربا في العصر الحديث – هربرت فِشر – ت: أحمد نجيب هاشم، وزميله- ط دار المعارف –  مصر – ط  6 صـــــ 12