“هل انتهى القرن الأمريكيّ؟” سؤالٌ اتَّخَذَهُ عنواناً لكتابه “جوزيف صمويل ناي” أستاذ العلوم السياسية بجامعة هارفارد، وصاحب المؤلفات التي شكلت مصدرا لتطوير السياسة الخارجية في عهد “باراك أوباما”، وبرغم أنّه انتهى إلى نتيجة أقل تشاؤمًا رأيناه قد ضَمَّنَ كتابه حقائق واقعية ربما تثير تشؤمًا أكثر على مستقبل أمريكا عند قُرَّائه قبل غيرهم، وفي مستهل كتابه أورد سؤالاً لأحد الخبراء: إذا كانت الإمبراطورية البريطانية قد استمرت قرنين؛ “فلماذا بدأنا بالانحدار بعد نحو خمسين سنةً!”([1]).
الأمر – إِذَنْ – بدأ قبل الزلزال الأفغانيّ، وله أسباب أعمق وأقدم من صعود “طالبان”، غير أنّ الخروج الأمريكيّ على هذا النحو المهين من “كابل” استثار القضية من مكمنها، ومن المؤكد أنّ هذا الحدث – المحَلِّيّ الكونيّ في آن – قد أكّد المخاوف وسكب على وقودها زيتا جديداً؛ لذلك وجدنا الصحف الغربية عموماً والأمريكية على وجه الخصوص يعلو موجها هادرا ومنذرا، فعلى سبيل المثال: نشرت مجلة “الإيكونوميست” مقالا ل “نيال فيرجسون” بعنوان: “لماذا لن تكون نهاية الإمبراطورية الأمريكية سلمية؟” ورد فيه: “قد يكون الوقت قد حان لمواجهة حقيقة – فهمها تشرشل جيداً – وهي أنه: نادراً ما تكون نهاية الإمبراطورية عملية غير مؤلمة”([2])، والذي يقول هذا الكلام هو “فيرغسون” أستاذ التاريخ الذي دافع كثيرا عن الإمبراطوريات، إلى حدّ أنّه يعتبرها ضرورة حتى للأمم المستعمرة فيقول في كتابه الشهير “الصنم”: “إنّ تجربة معظم الدول في إفريقيا والشرق الأوسط منذ عام 1945م إضافة إلى أجزاء كبيرة من آسيا تضع إيمان “روزفلت” بالتحرر من الاستعمار في غير محله”([3]).
وليس الأمر مجرد تشاؤم نفسيّ وَلَّدته الصدمة المباغتة، وإنّما هو “تشاؤم استراتيجي
حتى الطائر الذي حلَّق طويلا وغرَّد كثيرا في سماء التبشير ببلوغ الإنسانية نهايتها على شواطئ الليبرالية الأمريكية “فرنسيس فوكوياما” يعكس اليوم الاتجاه الذي رسمه بإصرار وحتمية في كتابه “نهاية التاريخ” ويدخل عن طواعية واختيار سرب المغردين في الاتجاه التشاؤميّ؛ فها هو يكتب في مجلة الإيكونوميست في 18 أغسطس 2021م مقالا بعنوان “نهاية الهيمنة الأمريكية” ومما قال فيه: “وحقيقة الأمر أنّ نهاية العهد الأمريكي جاءت قبل ذلك بكثير؛ لكن الأسباب طويلة المدى للضعف والانحدار الأمريكي هي في الحقيقة محلية أكثر منها دولية” … “ليس من المرجح أن تستعيد الولايات المتحدة مكانتها المهيمنة السابقة، ولا ينبغي لها أن تطمح في ذلك”([4]).
واللافت للنظر بشدة أنّ كثيرا من المنذرين بزوال الهيمنة الأمريكية بعد انسحاب أمريكا من أفغانستان يربطون – بلغة صارمة ملؤها الزعر والهلع – بين هذا الحدث وحدث الخروج السوفيتي من نفس البلد، أوردت مجلة “نيويوركر” الأمريكية الأسبوعية بتاريخ 15 أغسطس 2021م مقالا بعنوان: “هل يمثل الانسحاب الكبير من أفغانستان نهاية العصر الأمريكي؟” للكاتبة روبن رايت” قالت فيه: “إنّها لنهاية مشينة تضعف مكانة الولايات المتحدة في العالم وربما بشكل لا رجعة فيه” … “إنّها ليست مجرد هزيمة ملحمية للولايات المتحدة؛ فقد يكون سقوط كابل بمثابة نهاية لعصر القوة العالمية للولايات المتحدة” … “إنّ الانسحاب الكبير لأمريكا من أفغانستان مهين على الأقل بقدر ما كان انسحاب الاتحاد السوفيتي من هذا البلد عام 1989م وهو الحدث الذي ساهم في نهاية امبراطوريته”([5]).
وليس الأمر مجرد تشاؤم نفسيّ وَلَّدته الصدمة المباغتة، وإنّما هو “تشاؤم استراتيجي” مبنيّ على دراسات سابقة؛ فلولا اهتزاز ثقة المفكرين في جدوى استمرار الهيمنة الأمريكية لأسباب أقدم وأعمق من مجرد هزيمتها “مِنْ قِبَلِ تَمَرٌّدٍ تَسْلِيحُهُ لا يزيد عن قذائف آربي جي وألغام أرضية وبنادق كلاشنكوف” على حدّ تعبير “ليز سلاي” الصحفية ب”الواشنطن بوست”، لولا هذا الاهتزاز في الثقة لأسباب داخلية عميقة؛ لما اندفع في الصحافة الأمريكية والعالمية هذا السيل العارم من التصريحات التشاؤمية الحادّة من مفكرين ومتابعين كبار، بوزن فوكوياما الذي قال مشيراً إلى أحد أبعاد الأزمة: “فالمجتمع الأمريكي يسوده استقطاب حاد … تَحَوَّلَ منذ ذلك الحين إلى صراع مرير حَوْل الهوية الثقافية”.
إلى هذا البعد الخطير أشار أحد المحترفين لاستطلاع الرأي العام “وليام ماك إنترف” في تصريح ل”الواشنطن بوست” فقال: “عندنا قوتان ضخمتان تصطدمان، واحدة ريفية مسيحية محافظة دينيا، والأخرى متسامحة اجتماعيا توافق على تخيير المرأة بين الحمل وعدمه، علمانية تعيش في نيو إنجلاند وعلى شاطئ المحيط الهادئ” ولعل صعود اليمين المحافظ قد أعطى لإحدى هاتين القوتين بعدا سياسيا واسع المدى كان أقصى تجلياته متمثلا في “الترامبية” التي لم تمت لمجرد نجاح بايدن، وبخلاف هاتين القوتين هناك اتجاهان آخران يتصارعان، اتجاه يعظم الموروث عن الآباء المؤسسين وآخر جديد طائش يتعجل نهاية العالم، وكما عبر “باتريك بوكانن” الذي عمل مستشارا لرؤساء أمريكا من نيكسون إلى ريجان: “إنّنا بَلَدَان وشَعْبَان: أمريكا قديمة تموت، وأمريكا جديدة تنال ما تستحق”([6])، فالصراع الثقافي على الهوية صار مارداً جباراً مقلقاً؛ ولاسيما مع تعقد التركيبة الديموغرافية للمجتمع الأمريكيّ بسبب نشأته وحتميات الهجرة.
ويناقش فريد زكريا في كتابه “مستقبل الحرية” مشكلة الجمود السياسيّ ويَرُدَّها إلى طبيعة النظام
وقد أوجز “جوزيف ناي” مشكلات أمريكا الداخلية والمستعصية على الحلّ، لكنّه – لكونه أقل تشاؤما وأكثر واقعية – أدغم بها بعض عوامل للصمود الحضاري، فقال: “الولايات المتحدة تواجه مشكلات حقيقية في مسائل من مثل: الديون والتعليم الثانويّ وعدم تساوي الدخل والجمود السياسي، لكن يمكن أن يلاحظ أحدنا أنّها جزء من المشهد، إذ ثمة على الجانب الإيجابي من القضية مزايا الديموغرافيا والتكنلوجيا والطاقة”([7])، غير أنّ ما ذكره من إيجابيات لا يصمد أمام تلك المشكلات لأنّ المشكلات جذرية بخلاف تلك التي يراها روافع.
وما لخَّصَهُ وأَجْمَلَهُ “جوزيف ناي” في ذاك الموضع فَصَّلَه في مواضع عديدة وبنى عليه، وفَصّلَه كذلك آخرون، ربما يجدر البدء بهم قبل العودة إلى “ناي”، يتحدث “فرجسون” عن الآثار الاقتصادية الناجمة عن السلوك الاستهلاكيّ للأمريكان – والذي يصعب تغييره ولو على المدى البعيد – فيقول: ” ارتفع حجم ديون القطاع المنزلي/الأسري من 44% من الناتج المحلي الإجمالي في الستينيات والسبعينيات إلى 78% عام 2002م … فقد أقرت الحكومة الاتحادية في يوليو 2003م بأنّ فائض الميزانية المقدر بمبلغ 334 مليار دولار – والذي جرى توقعه قبل عامين – قد تحول – بفضل توليفة جمعت الركود والحرب وتخفيض الضرائب – إلى عجز لا يقل عن 475 مليار دولار”([8])، وبعد استطراد في شرح الأزمة، يعلق قائلا: “فمنذ عام 1985م تحولت الولايات المتحدة من دائن عالميّ إلى أكبر مَدِينٍ في العالم … لابد من الاعتراف بأن اعتماد أمريكا على رأس المال الأجنبي تشبه التوازن فوق حبل مشدود على علو شاهق”([9])، ثم يواصل ناعيا على المجتمع الأمركي الطبيعة المترهلة: “الاستهلاك اعتمادا على الاقتراض، الإحجام عن الذهاب إلى جبهات القتال، النزعة لفقد الاهتمام بالمهمات والمشاريع طويلة الأمد؛ إذا كانت كل هذه السمات تستحضر صورة أمريكا في الذهن كمتمرد كسول مغرم بالجلوس وعدم مغادرة البيت، أو بتعبير أكثر فظاظة: مدمن استراتيجي للجلوس ومشاهدة التلفزيون؛ فإنّ الصورة تستحق التفكير والتأمل … ويبدو أنّ: “عبء الرجل الأبيض محمول على كرشه”([10]).
ويناقش فريد زكريا في كتابه “مستقبل الحرية” مشكلة الجمود السياسيّ ويَرُدَّها إلى طبيعة النظام؛ فيقول: “تستحوذ فكرة الانتخاب على عقل السياسيّ، والآن السياسيون الأمريكيون يركزون بشكل عنيد على الفوز في الانتخاب القادم، واستثناء كل شيء ما عدا ذلك، لا لأنهم بشر أسوأ من أسلافهم، ولكن لأنّ النظام يدفعهم في هذا الاتجاه”([11])، وفي سياق تفصيله لجذور الأزمة يصف الأحزاب وطبيعة عملها الذي آلت إليه: “إنّ الحزب على الأغلب تحول إلى عربة لجمع التبرعات لصالح مرشح ذي طلة تلفزيونية مميزة”([12])، وباختصار ينقل المشهد: “أصبحت الحكومة الأمريكية في كلمات “راوخ”: “كتلة مجمدة عملاقة من البرامج المعظمة العالقة في أزمة نقدية دائمة”([13]).
وأودّ أن أوذكر هنا صرخة أحد العقلاء الذين كتبوا من منطق الحرص على الغرب كله وحضارته
وبرغم أنّ الأزمة الديموغرافية في أمريكا أقلّ من أوربا وروسيا والصين، إلا أنّها ليست ببعيدة عنها؛ لكونها مرتبطة بالرجل الأبيض المتحضر من جهة الطبيعة الثقافية والسلوكية التي أضفتها عليه الثورة الثقافية المعاصرة، وصارت وثيقة الصلة به، يقول “بيتر فرديناند داركر” الحاصل على “الوسام الرئاسي للحرية” بأمريكا عام 2002م: “إنّ أهم حقيقة مفردة جديدة – ولو لم يكن ذلك إلا بسبب أنّها حقيقة ليس لها سابقة في التاريخ كله – هي انهيار نسبة الولادات في العالم المتقدم كله” وبلهجة فزعة مفزعة يقول “باتريك بوكنان”: “الغرب يموت؛ لقد توقفت أُمَمُهُ عن التكاثر، وتوقف سكانه عن النمو، وبدأوا بالانكماش، ولم يقم – منذ الموت الأسود الذي حصد أرواح ثلث سكان أوربا في القرن الرابع عشر – تهديد أخطر لبقاء الحضارة الأوربية من هذا الخطر الماثل … جميع ملل الإيمان المسيحي ممثلون في المسيرة العظيمة لموت الغرب”([14]).
أمّا عن أزمة العنصرية والعصبية، والهوس اللاهوتي بنهاية العالم، الذي أفصح عن نفسه في لغة “جيمي سواغرت” و”جيري فالول” و “ليندسي” وغيرهم، بل وفي خطابات سياسية لساسه من الأمريكان على مستوى رؤساء وزعماء من أمثال ريجان، مما أوردته كتب سيارة مثل كتاب “النبوءة والسياسة” ل “غريس هالسل” عن هذه الأزمة وآثارها التي يمكن أن تتفاقم مع صعود اليمين المحافظ في الغرب كله، عن هذه الأزمة الكبيرة “حَدِّثْ ولا حرج”، وأودّ أن أوذكر هنا صرخة أحد العقلاء الذين كتبوا من منطق الحرص على الغرب كله وحضارته، يقول “ريتشارد كوك” بواقعية شديدة: “إنّ مورثات العدوان الصليبيّ المنحرف، والمدعومة بالعلم والتقنية وأقوى النظم الاقتصادية والعسكرية مزقت الغرب ومن ورائه العالم إلى أجزاء، وحين يعاد توحيد مورثات التعصب المفرق مع الأصولية الدينية؛ فإنّ هذه المورثات تبقى تهديداً قوياً للغرب، لا من الخارج فقط بل من الداخل الذي يعتبر أكثر تهديداً”([15]).
وَثَمّ أزمة قلّ من تحدث فيها، ولعلها تنتمي إلى ظاهرة “ترهل المارد العملاق”؛ ففي تقرير نشرته منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية عام 2013م يقارن مهارات البالغين في عشرين دولة متقدمة تبين أنّ 36 مليون أمريكي لديهم مهارات خفيضة، وأنّ العمال الأمريكيين تم تصنيفهم في المستويات الأخيرة في مهارات الحساب والكفاءة التكنلوجية … فالطلاب الأمريكيون لا يبدو أنهم يحسنون من معارفهم ومهاراتهم بما يكفي لمواكبة الاقتصاد المتطور، فإذا عدنا إلى “جوزيف ناي” وجدناه – برغم فتور الحالة التشاؤمية لديه – يحذر من الأزمة المالية – التي لا يرى لها الخبراء حلا – بهذه اللهجة المفرطة في الخوف والتخويف: “وبعد الأزمة المالية أصبح المصدر الرئيسي للمخاوف مستوى الدين الحكومي، ففي مفردات التاريخ البريطاني: “تلك هي الطريقة التي انحدرت بها الإمبراطوريات؛ بدأت بانفجار الديون”([16]).
أمّا عن أزمة التباين الفاحش بين الدخول والعوائد، تلك الأزمة التي يصعب إيقاف مدها مع تنامي الفكر النيوليبرالي واستبداد “صبية مدرسة شيكاغو” بالتنظير الاقتصادي وفرضهم لنظرية “ميلتون فريدمان” المحابية بشدة للرأسمال على حساب اليد العاملة، مع نفوذ “جماعات الضغط النفعية” وتسلطها على سياسات الأحزاب، عن هذه الأزمة يتحدث “توماس بيكيتي” في آخر صيحة موجعة: “يتقاضى الموظف المتوسط في شركة “وول مارت” أقل من 25000$ في السنة، في حين أنّ “مايكل ديوك” رئيس تلك الشركة حصل على أكثر من 23 مليون دولار في 2012م، كما أنّه في 2011م حصل “تيم كوك” من شركة “أبل” 378 مليون دولار في شكل مرتب وأسهم ومزايا أخرى، حيث كان ذلك الرقم يعادل 6258 ضعف متوسط راتب الموظف في “أبل”، وهذا الاتجاه يوجد في كل مكان في عالم الأعمال”([17]).
هذه هي الصورة التي تجليها كتب ومقالات وتصريحات وأبحاث وتقارير لمفكرين وعلماء وصحفيين ومختصين من الغرب ولاسيما أمريكا نفسها، وإذا كان هناك خلاف في درجة التشاؤم فإنّ الإجماع منعقد على أنّ الهيمنة الأمريكية في طريقها إلى الزوال، وإن بقيت أمريكا دولة عظمى قوية لفترة تطول أو تقصر، فبعض هؤلاء الأقل تشاؤما يرى أنّ الأمر سيؤول إلى اللاقطبية، بحسب تقرير ل “راند شويلر” يقول: “فإنّ قانون توسع الكون يعني أنّ النظام في هذا العالم قد استبدل بفوضى واسعة وعلى نحو مذهل، ويبين أنّ النمط المستقبلي لن يكون قوة عظمى تصارع أو تهادن، وإنّما الكون المعلوماتي، وهو الجواب عن: ما هو التالي؟ إنّه لا أحد”.
أمّا مجلس الاستخبارات القومي – الذي يعد التقديرات بخصوص الرئيس الأمريكي – فقد نشر أخيرا تقريرا عن عام 2030م يتنبأ فيه أن تبقى الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة في العالم، لكن لن تكون هناك هيمنة؛ فقد انتهت لحظة القطب الواحد، والولايات المتحدة لن تكون قوية كما كانت في الماضي، ودرجة الانحدار النسبيّ لن تكون كما لو أنّها نهاية العهد الأمريكيّ([18]).
وسواء ترجحت كفة المتشائمين أو تأكدت تنبؤات الأقل تشاؤما؛ فإنّ النتيجة بالنسبة إلينا واحدة
وأكتفي بذكر هذه الأقوال الأقل تشاؤما؛ لأنّها أشارت كلها إلى زوال الهيمنة، وانتهاء عهد القطب الواحد، وهذا ما يهمنا في الحقيقة، مع كونه أكثر واقعية من التحليلات التي تذهب إلى الانهيار التام السريع، والذين ذهبوا إلى هذا التوقع المرجح – وهو اللاقطبية واللاهيمنة – يرون أنّ محور الصين وروسيا لن يكون قطبا بديلا؛ لأسباب أراها من وجهة نظري منطقية، فالصين – وإن كانت تقبع وراء جدار الصراعات العالمية، أو كما عبر البعض “تستمتع بمغربات الركوب المجاني، ما دام أنّ هناك من يقود الحافلة” – فإنّها برغم ذلك لا تمتلك المقومات الحضارية لتكون وحدها قطبا محوريا مع وجود وصعود قوى كثيرة، ونفس الكلام بالنسبة لروسيا وإن اختلفت الأسباب.
أمّا عن تحالف الصين وروسيا فبرغم الخطاب الدافئ “فإنّ هناك عقبات حقيقية تقف في وجه التحالف الروسي الصيني تتجاوز حدود التنسيق الدبلوماسي التكتيكي؛ فالصين كقوة صاعدة لديها ما تكسبه أكثر من روسيا في الوقت الراهن، من ضمن ذلك الدخول إلى التجارة والتكنلوجيا الأمريكية، علاوة على ذلك لا تزال هناك بقايا من عدم االثقة التاريخية بين روسيا والصين؛ فهما تتنافسان في تأثيرهما في آسيا الوسطى، وأثار غضب الروس وجهة نظر الصين التجارية التي ترى أن التبادل التجاري بينهما هو تبادل الصناعات مقابل المواد الخام”([19]).
وهذ الذي يجري ليس غريبا ولا عجيبا؛ فهذه سنة إلهية ماضية، عبر عنها ابن خلدون بقوله: “إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقبلت الدولة على الهرم”([20])، والله تعالى يقول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140).
وسواء ترجحت كفة المتشائمين أو تأكدت تنبؤات الأقل تشاؤما؛ فإنّ النتيجة بالنسبة إلينا واحدة أو متقاربة؛ لأنّ المهم هو زوال الهيمنة والقطبية، وسواء آل الأمر إلى قطبيات متعددة بينها تنافس أو إلى اللاقطبية واللاهيمنة فإنّ الفرصة لدينا كبيرة؛ بتوفر هامش للاستقلال وفرص للحرية وسقف للإرادة السياسية التي يجب أن تتوجه نحو التحرر والانطلاق ولو بالتدريج، المهم هو أن تتوفر الإرادة، ولا ريب أنّ الشعوب قادرة – إن شاءت – على الضغط على حكوماتها لتغير من سياساتها تبعا للمتغير الجديد، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).
([1]) هل انتهى القرن الأمريكي؟ – جوزيف ناي – ترجمة محمد إبراهيم العبدالله – مكتبة العبيكان – الرياض – ط أولى 2016م صــــ8
([2]) عن المعهد المصري – ترجمة عادل رفيق – في 20 أغسطس 2021م
([3]) الصنم “صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية” – نيل فرجسون – ت: معين محمد الإمام – مكتبة العبيكان – الرياض – ط 1422م صــــ258
([4]) عن المعهد المصري: ترجمة: عادل رفيق – بتاريخ 27أغسطس 2021م
([5]) السابق – 26أغسطس 2021م
([6]) موت الغرب – باتريك جيه بوكانن – ترجمة محمد محمود التوبة – مكتبة العبيكان – الرياض – ط 1426ه صــــ 22
([7]) هل انتهى القرن الأمريكي؟ – جوزيف ناي – ترجمة محمد إبراهيم العبدالله – مكتبة العبيكان – الرياض – ط أولى 2016م صــــ106-107
([8]) الصنم “صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية” – نيل فرجسون – ت: معين محمد الإمام – مكتبة العبيكان – الرياض – ط 1422م صــــ392
([9]) الصنم “صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية” مرجع سابق صــــ423
([10]) الصنم “صعود وسقوط الإمبراطورية الأمريكية” مرجع سابق صــــ430
([11]) مستقبل الحرية (الديمقراطية الضيقة الآفاق في الداخل والخارج) – فريد زكريا – ت فادي أديب – ط أولى – دار مجالات – بيروت – صـ 208
([12]) السابق صـــ 205
([13]) أيضا صــــ 193
([14]) موت الغرب – باتريك جيه بوكانن – ترجمة محمد محمود التوبة – مكتبة العبيكان – الرياض – ط 1426ه صــــ27
([15]) انتحار الغرب – ريتشارد كوك ، كريس سميث – ترجمة محمد محمود التوبة – ط أولى 2009م العبيكان السعودية صــــــ 88-89 بتصرف بسيط
([16]) نهاية القرن الأمريكي ل جزيف ناي .. مرجع سابق صــــ78
([17]) رأس المال في القرن الحادي والعشرين – توماس بيكيتي – ترجمة محمود الشاذلي – دار الثقافة الجديدة – القاهرة – ط أولى 2015م صــــ27
([18]) هل انتهى القرن الأمريكي؟ – جوزيف ناي – ترجمة محمد إبراهيم العبدالله – مكتبة العبيكان – الرياض – ط أولى 2016م صــــ91-92
([19]) هل انتهى القرن الأمريكي؟ – جوزيف ناي – ترجمة محمد إبراهيم العبدالله – مكتبة العبيكان – الرياض – ط أولى 2016م صــــ39
([20]) مقدمة ابن خلدون – ولي الدين عبد الرحمن بن محمد بن خلدون – دار يعرب – دمشق – ط أولى 2004م صـــ 332