الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
حملة مسعورة يمارسها السيسي وجنوده على بيوت الله وبيوت عباد الله؛ لا مبرر لها إلا (البلطجة) بكل معانيها ودلالاتها، والعجيب أنّه وهو يمارس هذا العدوان السافر يستعمل الدين في التبرير والتزوير؛ ليجمع إلى (البلطجة) صفاقة مقرفة مقززة، وإنّ أشد ما يؤلم النفس أن يمارس الغاصبُ – وهو يسلبك كل ما تملك – إقناعك بأنّ هذا حقه وأنّك أنت المعتدي الظالم؛ ليغتال حقك حتى في البكاء والشكوى؛ فهل للشرع حكم في هذا الذي يجري؟
أجل .. وهل كان الشرع يوماً غائبا عن شيء يجري على أرض الله بين خلق الله؟! إنّ الغيبة غيبة المخاطبين بالشرع والمكلفين بإبلاغه لا غيبة الشرع، وما من شيء يقع في هذه الحياة إلا وللشرع فيه حكم، علمه من علمه وجهله من جهله، ذلك لأنّ الله تعالى أرسل رسوله محمداً بالحق، فما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد كمل الدين وتمت به النعمة: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة 3).
في البداية يجب أنّ نصحح النظر لما يطلق عليه “أملاك الدولة”، فلا يوجد في الحقيقة أملاكٌ للدولة، وإنّما هي أملاك الشعب وأراضي الشعب وأموال الشعب، ف “مال المسلمين” ملك للمسلمين، والحاكم وكيل عنهم في التصرف في هذا المال، بل إنّه لا يسمى المال العام؛ حتى لا تستبد الدولة بالتصرف فيه، لذلك رفض أبو ذر تسمية معاوية لهذا المال بمال الله، مع أنّ المال مال الله، لأنّ تسمية الخليفة للمال هنا تسمية سياسية اقتصادية، سواء قصد أم لم يقصد، ويترتب عليها أحكام، سواء تأخرت أو تعجلت، فمال الله يعني الملكية العامة، يعني المال العام؛ ويترتب عليه استبداد الدولة في التصرف فيه، وبعد حوار رضخ الخليفة معاوية لرأي أبي ذر وسماه مال المسلمين؛ ” فهذا الحوار يدل على أن التسمية ليست مسألة شكلية وإنما هي تكييف سياسي واقتصادي، فإذا كان المسلمون الأوائل ممثلين في أبي ذر، رفضوا تسمية (مال الله) ، ورأوا أن تسمى باسم (مال المسلمين)، فإن هذا يدل على أنها ليست مملوكة للدولة، وإنما لجماعة المسلمين ، والتكييف على هذا النحو له معطياته، فيمن يتخذ القرار، وفيمن يراقب”([1])
والأراضي مال على كل حال، فإن كانت مملوكة لأحد من المسلمين أو غيرهم من المواطنين معصومي الدم والمال ملكا خاصّاً فإنّ هذا الملك الخاص محترم لا يجوز لأحد الاعتداء عليه، وإن لم يكن كذلك وكان مواتاً لا زرع فيه ولا بناء فلا تستبد الدولة بالتصرف فيه فضلا عن ادعاء ملكيته، وإنّما هو لمن أحياه؛ عملا بحديث: (مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ، وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ)([2])؛ لذلك قال الشافعية ومن وافقهم: “يجوز لكل أحد إحْيَاء الْموَات بِغَيْر إِذن الإِمَام، وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يَصح الْإِحْيَاء إِلَّا بِإِذن الإِمَام”([3])، وخلاف أبي حنيفة ليس في أصل حق الملك لمن أحيا، وإنّما في مسألة تابعة وهي: هل يكون ذلك الحق بتنظيم الإمام لممارسته أم إن الإمام لا يتدخل إلا في حال النزاع؟ والسبب هو الخلاف في نسبة التصرف النبويّ في هذا الحديث أهو على وجه البلاغ والإفتاء أم على وجه الحكم والقضاء.
ولذلك فإنّ الدولة إذا أرادت أن تحمي قطعة من الأرض لمصالح الدولة وللصالح العام كما كانت تحمي في عهد النبوة والخلافة لغرض رعاية إبل الصدقة فإنّ تصرفها هذا يأتي على خلاف الأصل؛ ومن ثم فإنّه لا يجوز لها أن تحمي كل الأرض ولا أكثرها، يقول الماورديّ: ” قد حمى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالمدينة … فأمَّا حمى الأئمة من بعده، فإن حموا به جميع الموات أو أكثره لم يجز؛ وإن حموا أقله لخاص من الناس أو لأغنيائهم لم يجز. وإن حموه لكافَّة المسلمين أو للفقراء والمساكين ففي جوازه قولان”([4]).
لأجل ذلك – لأنّ الأصل أنّ الأراضي والأموال ملك للشعب وأنّ الحمى مشروع للصالح العام على خلاف الأصل- فإنّ وقوع خروقات من الرعية لما تحميه الدولة للصالح العام يجب أن يعالج بالرفق ولاسيما مع البسطاء غير الأغنياء، لذلك شدّد عمر على عامله على الحمى أن يترفق برب الصريمة والغنيمة، أي البسيط صاحب الغنم والبهائم القليلة، فعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: اسْتَعْمَلَ مَوْلًى لَهُ يُدْعَى هُنَيًّا عَلَى الحِمَى، فَقَالَ: “يَا هُنَيُّ اضْمُمْ جَنَاحَكَ عَنِ المُسْلِمِينَ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ، وَأَدْخِلْ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ، وَرَبَّ الغُنَيْمَةِ، وَإِيَّايَ وَنَعَمَ ابْنِ عَوْفٍ، وَنَعَمَ ابْنِ عَفَّانَ، فَإِنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتُهُمَا يَرْجِعَا إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ”([5]).
فلو فرضنا أنّ الدولة تمارس وظيفتها بصدق من أجل الصالح العام لكان لزاما عليها أن تحاسب المسئولين الذين تهاونوا في المخالفات حتى فات أوان الإصلاح، وأن تتلطف مع المخالفين الذين صارت مخالفاتهم واقعا يعود بالأشياء إلى أصلها قبل ورود يد الدولة عليها، وأن تبحث عن حلول تعالج بها الإشكالات التي تسببت فيها بتفريطها وتهاونها.
وهذا الذي سقناه آنفا بيان للحكم في حال ما إذا كان الحاكم شرعيا يحظى بشرعية حقيقية ويمثل الأمة تمثيلا حقيقيا، ويتصرف هذه التصرفات من هدم وغيره على وجه الغشم وسوء الإدارة، فأمّا إذا كان هذا الحاكم يهدم بهذه القسوة ليرهب الشعب حتى ينفض أكياسه في حجره، وهو في ذات الوقت لا يملك شرعية يفعل بها هذا فإنّ الحكم يختلف.
إنّ حاكما كهذا الذي يبذل وسعه في إرضاء الكيان الصهيونيّ ويظاهر الكافرين على الإسلام والمسلمين ويبدد ثروات الأمة وأرضها ونيلها عن عمد، ثم يوقف البناء ويزيل من يخالفه من أجل تسويق ما بناه بالسخرة، إنّ مثل هذا الحاكم لا تساق له تلك الأحكام التي سقناها إلا على سبيل التنزل من أجل البيان، وإلا فإنّه ليس له في نظر الإسلام أن يحكم في بعير ضال، وليس له هو ولا نظامه عند الشعب إلا الطرد واللعن والضرب بالأحذية، ولو أنّ مسلما يُهدم بيته بهذه الطريقة قام ودافع عن بيته وماله؛ فَقُتِل لكان شهيداً، أو قَتَلَ لكان المقتول في النار؛ آمراً كان أم مأموراً؛ إذ إنّ أقل ما يوصف به هؤلاء الخونة أنهم صائلون على أموال الناس عابثون ببلادهم وأراضيهم وبيوتهم وسائر شئونهم.
إنّ هدم بيوت الناس وبيوت رب الناس ليس إلا عدوانا على الناس ورب الناس، وليس لهذا العدوان إلا أن يقابل بثورة عارمة على الباغي العادي، وإنّها لآتية: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6)) (الروم: 4-6).
([1]) الاقتصاد الإسلامي : المرتكزات ـ التوزيع ـ الاستثمار ـ النظام المالي – للدكتور رفعت السيد العوضي
([2]) سنن أبي داود (3/ 178) برقم (3073)
([3]) تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام – بدر الدين بن جماعة – صـــــــ 107
([4])الأحكام السلطانية – : أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن حبيب الشهير بالماوردي – دار الحديث – القاهرة – (ص: 275)
([5]) صحيح البخاري (4/ 71)