منذ اللحظة الأولى لدخول المنافق قسطنطين في المسيحية بدأَ ينشأُ ما يمكن تسميته بنكاح المصالح بين القصر والكنيسة، ففي البداية بَسَطَتْ الكنيسةُ ذلك الفراشَ الوثير: “دعو ما لقيصر لقيصر وما لله لله” ثم انطلقتْ تبُثّ تعاليمها “الدينية!”، يتوسطها حكم شرعيّ قاطعٌ بأنّ الحاكم جاء بترتيب الربّ، فمَن اعترض على حكمه فقد اعترض على ترتيب الربّ، ولأنَّ هذا السَّخَفَ لا يحيا ولا يدوم مع وجود الخطاب الدينيّ الصحيح؛ تَمَّ عَقْد “مَجْمَع نيقية” الذي كان بمثابة مذبحة للآريوسية وأمثالها من المذاهب المتمسكة بأصل المسيحية؛ لتُعتمد في النهاية النسخةُ المحرفة للمسيحية، ويُمحَى ما يخالفها محوًا.
ولكي تحقق المسيحية المبدَّلة مقصد قسطنطين من اعتناقه لها – وهو توحيد الإمبراطورية المترامية الأطراف على دين واحد يُسَوِّغ تعبيد الرعية للحاكم – أطلق القصرُ يد الكنيسة؛ لتنطلق بدعوتها فتستولي على مشاعر شعوبٍ سَبَقَ للحاكم أن استولى على أبدانها، ومن هنا بدأت تظهر وتتمايز سلطتان: “دينية وزمنية”؛ لتبزُغ بعد ذلك نظرية “السيفين”، التي تؤطر للعلاقة بين السلطتين، ومن يومها والتدافع بين الكنيسة والقصر وكذلك بين الْمُنَظِّرين لكل منهما لا يهدأ ولا يَفْتُر، وظل الأمر على هذا النحو من التداول؛ فتارة تعلو الكنيسة بسلطانها الروحيّ وتارة يعلو القصر بسلطانه الماديّ.
وعلى الرغم من أنّ المشيخة في السعودية لم تنحرف عن الإسلامَ ولم تخرج عن أهل السنة والجماعة؛ فإنّ علاقتها مع النظام السعودي شابها شيء من هذه الازدواجية النَّكدة، إلا أنّها لم تنجح في ترسيخ سلطانها الدينيّ بما يؤهلها لمنازعة السلطة كما فعلت الكنيسة في العصور الوسطى؛ فتم تطويعُها شيئًا فشيئا، حتى آلتْ إلى هذه الحالة من الإفلاس السياديّ الكامل، فحُرمت البلادُ من أيّ فرصة لميلاد الحرية؛ إذْ إنّ الحرية تُولَد في كل أرض تتدافع فيها القوى أَبْكَرَ من غيرها؛ لذلك – وحسب فريد زكريا – كان غرب أوربا أسرعَ إلى الإفاقة من شرقها للفرق المنهجيّ بين الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية.
ومع ذلك بقيت البيئةُ الشرعية الحجازية مهددةً لاستقرار الظلم والفساد والاستبداد؛ لا لشيء إلا لأنّها بيئة تأصيلية تعتمد على نصوص الكتاب والسنة، ويشيع فيها فقه ابن حنبل وابن تيمية وأمثالهما من جهابذة السلف، الذين عرفوا بفهمهم الثاقب ومواقفهم الصلبة، فلابد إذَنْ من الذهاب إلى آلية جديدة لتغيير الأوضاع بما يمحو آثار العقود التي تجاورت فيها السلطة والمشيخة “آل سعود وآل الشيخ”، ولا سبيل إلى ذلك إلا باستنساخ تجربة مارتن لوثر؛ ليس من أجل الإصلاح الدينيّ الذي كان لوثر يهدف إليه ضِمْنَ ما يهدف، ولكنْ من أجل محو آثار المشيخة ليتمحض الأمرُ برُمّته للحكم المطلق.
ولا ننسى أنّ حركة الإصلاح الدينيّ التي بدأها لوثر وأكملها كلفن كانت على حقّ في نقدها للكنيسة وسعيها لتقويض سلطانها، ولكنّها لم تكن على حق في دعمها للحكم المطلق، فبقدر ما أصابت في مقاومتها للكنيسة أخطأت في مساندتها لسلطة الملوك والأباطرة، فكان فيها جانب مضيء وآخر مظلم، فمن رام استنساخها بتمامها في الإسلام فهو قاصد إلى ظلمات بعضها فوق بعض؛ لأنّه لا يوجد في الإسلام مسجدٌ يمارس ما كانت تمارسه الكنيسة من طغيان سياسي يستدعي ذلك الإصلاح، بل لا يوجد في شريعة الإسلام تلك الازدواجية النكدة التي وُجدت في العصر الوسيط.
ومن سوء حظ المغامسي أنّه في إحدى المقاطع المسجلة له أثناء حديثه عن التجديد ذكر مارتن لوثر كنموذج للتجديد، فهل كان سبب إعجابه – هو ومَن دفعه إلى ذلك دفعًا – أنّ لوثر كان يدعو إلى السمع والطاعة للحاكم وإن جلد الظهور وسلب الأموال؟ فها هو لوثر – مغامسي القرن السادس عشر – يقول: “ليس من الصواب بأيِّ حال أن يقف المسيحي أمام حكومته؛ سواء كانت أفعالها عادلة أم جائرة، وليس من الأفعال أفضل من طاعة من هم رؤساء لنا وخدمتهم، ولهذا السب أيضاً فالعصيان خطيئة أكبر من القتل والزنى والسرقة وخيانة الأمانة”، وقد نقل “جورج سباين” عن “كلفن” أقوالا تمضي على نفس المنوال، لتحقق ما أراده ميكيافيللي بغير قوة السلاح.
إنّ الملامح العامة للديانة الجديدة التي يتواطأ المغامسي وابن سلمان على تأسيسها تتبدى اليوم في فلتات الألسنة، وعمّا قريب – إذا لم يبادر أهل الفضل بالذود عن حمى الدين – ستكون واقعا يصعب زحزحته أو الخروج عليه، أول هذه الملامح إزاحة السنة من طريق الاستدلال، والتعامل مع النص القرآنيّ بالعقل المطلق؛ بزعم أنّ العقل مناط التكليف، ثاني هذه الملامح الدعوة للحرية بعد تفسيرها وحصرها في حرية الترفيه والتلذذ بالحياة، وهي الحرية ذاتها التي كان يدعو إليها “بترارك” و”دانتي” في أشعارهما والأنسانيون في أدبياتهم، غير أنّ هؤلاء لم يحصروا الحرية في ذلك الاتجاه مثلما يريد أن يفعل المغامسي وابن سلمان الآن، ثالث هذه الملامح تخطي مذاهب السلف إلى ما قبلها، أي إلى ما قبل الإسلام، وذلك باستدعاء الديانات القديمة تمهيدا لتوطين الدين الإبراهيمي في أرض الجزيرة، وهي غاية مغامسية بروتستانتية؛ فقد دعا لوثر إلى ضمّ العهد القديم للجديد، ليشكلا معا ما يسمى بالكتاب المقدس.
إنّ يقظة علماء الأمة هي صمّام الأمان، فيجب التنبه لألاعيب المنافقين، ولْنتعلم من كتاب الله تعالى أهمية السعي لكشف سوءاتهم ومجاهدتهم بالحجة والبيان؛ لأنّهم بتخريبهم للداخل الإسلاميّ يقدمون أعظم هدية لأعداء هذه الأمّة، ولطالما نزل القرآن محذرًا أمّةَ الإسلام من الثقة بأهل النفاق أو الركون إليهم، بل إنّ الله تعالى في آيتين من كتابه وضع جهاد المنافقين على التوازي مع جهاد الكافرين، فقال تعالى في التوبة والتحريم: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ)، والعجيب أنّ الآية الكريمة تنزل بنص واحد في التوبة التي تُعْنَى بموضوع الجهاد والتحريم التي تُعْنَى بحماية الأسرة والمجتمع؛ بما يعني أنّ جهاد المنافقين بالحجة والبيان وجهاد الكفار بالسيف والبنان هما صمام الأمان للأمة في مجموعها وكذلك للأسرة والمجتمع، وعليه فإنّ المبادرةَ إلى التشنيع بأمثال هذا الغرّ والتسفيه منه والحط من شأنه ووضعه في حجمه الحقيقي وتحذير الأجيال منه وتَعَقُّب أقواله بالتفنيد والدحض والإبطال واجبٌ شرعيّ كبير ينبغي عدم الفريط فيه، ولْنكنْ على يقين من أنّنا لسنا سوى ستار لقدة الله تعالى، وإلا فإنّ الله تعالى قد تولى حفظ كتابه: (إِنَّا نَحْنُ نزلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ).
المصدر: رسالة بوست