الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
رجل المواقف أنت؛ لذلك تهاوت كل الرموز وبقيت وحدك صامداً، أنت من بينهم جميعاً الذي تخطى العقبتين؛ ليبقى المخضرم الوحيد في النظام العتيد، فلا الثورة الصادقة أسقطتك ولا الثورة المضادة أطاحت بك مع من أطاحت من صالحين وفاسدين! أنت تعرف طريقك جيداً وتفهم اللعبة أكثر ممن صنعها وصاغها، وتدرك تماما متى تُقْدم ومتى تُحْجم؛ فَأُحَيّي فيك ذكاءك وأغبطك على رجاحة عقلك، ذلك العقل النرجسيّ إلى أقصى آماد النرجسية.
سوف أُذَكّرك وأُذَكّر المعجبين بك بموقفين اثنين فقط من مواقفك العابرة بآثارها حدود الزمان والمكان، وجميع ما بين هذين الموقفين هراء في هراء، فكل ما قمت به من دفاع عن الأزهر وعن الحجاب، وجميع ما أبليت به في معركة تجديد الخطاب؛ لا يساوي شيئا بالنسبة لموقف واحد من مواقفك الفاصلة الحاسمة، وما الذي يمكن أن تفعله كشيخ للأزهر إن لم تدافع عن هذه الأمور التي يكفي للتصدي لها أستاذ في الشريعة مغمور مطمور؟! فاصغ إليّ ودع عنك الصلف الفارغ.
هل تدري يا (شيخ الأزهر!) أبعاد ذلك البيان الذي أصدرته باسم مؤسسة الأزهر الذي يرزح تحت سلطانك منذ عهد مبارك الهالك؟ تدعم فيه القيادة المصرية في اعتزامها التدخل في ليبيا بذريعة حماية الأمن القومي لمصر! هل تدري كم من أبنائنا سيموت في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل؟! وكم من مسلم من إخواننا الليبيين سيلقى حتفة على يد إخوانهم من المصريين؟! وهل حسبت مقدار البلاء الذي سيحل على المنطقة بدعم الثورة المضادة في ليبيا ونصرها على حكومة حظيت بشرعية وتوافق؟!
سيقول المدافعون عنك الغافلون عن إدراك كنهك وسبر غورك: إنّ البيان اشتمل مع ذلك على التأكيد على دعم المسار السلمي، أقول: وهكذا تقول أمريكا وتقول فرنسا وإيطاليا! بل وتقول روسيا التي ترسل المرتزقة والسلاح دعما للانقلابيّ الغشوم حفتر! وهي عبارات تأتي في سياق التجميل لوجه العدوان، ولعلك لم تنس أنّ الاحتلال الإنجليزي والفرنسي لم يدخل بلادنا باسم الاحتلال وإنما جاءنا باسم الحماية تارة والانتداب أخرى، وأين كانت الدعوات التي تتعالى هذه الأيام بضرورة العودة إلى (مائدة المفاوضات!) عندما كان حفتر بأموال الأعراب يقصف المستشفيات والمدارس والبيوت في طرابلس دون رحمة ولا هوادة؟! إنّها فقط الرغبة في إطالة أمد الحرب وتأخير الحسم لغايات استعمارية.
ليس عندي أدنى شك في أنّك تدرك جيداً أبعاد ذلك البيان المتهاوي الأركان، لكنك لا يمكن أن تقول كلاماً غير هذا، ولا يتصور منك أن يكون لك موقف خلاف هذا؛ لأنك ببساطة شديدة رجل النظام، رجل النظام العسكريّ المصريّ؛ شأنك في هذا شأن السيسي وعلي عبد العال، ورجل النظام الإقليمي شأنك في هذا شأن المؤسسات الدينية الرسمية في كل البلاد العربية، ورجل النظام الدوليّ شأنك في هذا شأن بابا الفاتيكان سواء بسواء، مع الاحتفاظ بكونك مصري ومسلم.
أجل .. أنت تدرك جيدا كل المخاطر، وتدرك أنّ ليبيا لولا موقف (رئيسك!) كانت على أعتاب الانتهاء من أزمتها والذهاب إلى الاستقرار، وتدرك أنّ موقف (رئيسك!) دعمٌ من انقلابيّ لانقلابيّ مثله، وبأموال صبية الخليج الذين يعيثون فساداً في أرض الإسلام بأموال المسلمين، وتدرك أنّ ذلك سوف يكلف الأمة دماء وأموالا، ومآسي قد تنتهي بليبيا إلى ما انتهت إليه سوريا، تدرك ذلك كله تمام الإدراك، ولكنك لا تكترث بشيء من ذلك؛ لأنك بكل بساطة انقلابيّ ضالع في دعم الثورة المضادة.
ألست الذي أسبغ الشرعية على الانقلاب العسكري بمصر بالتعاون مع تواضرس وخليل مرة؟! وذلك هو الموقف الآخر من مواقفك الكبيرة التي يهدر في سبيلها كل ما تقوم به من (تهويش) في مواقف متفرقة ربما لو تركت لصغار طلاب العلم بالأزهر لكفوك إياها؛ لولا أنك أسهمت في تكميم أفواههم، هل رجعت إلى نفسك يوماً وحاسبتها على ذلك الموقف الذي وَفَّرْتَ به للانقلاب غطاءا شرعياً؛ ليطيح بكل مكتسبات الثورة، ولتتردى أوضاع الأمة كلها في شرق الأرض وغربها؟ هل حاسبت نفسك يوما على دماء الأبرياء التي سالت في رابعة والنهضة والمنصة وغيرها وكنت شريكا فيها بتبريرك وتمريرك للانقلاب؟ بل أسألك عن شباب جامعة الأزهر الذين قتلهم القناصة من فوق مباني الأزهر، وأسألك عن الذين اعتقلوا من أبناء الأزهر وبناته، ألم يكن لك شفاعة تتقدم بها من أجلهم؟
يا شيخ الأزهر ويا شيوخ السلطان جميعاً: لماذا لا تتدخلون في شئون السياسة والسلم والحرب إلا عندما يكون التدخل خادماً للأنظمة الحاكمة المجرمة؟ عندما قامت السعودية بما أسمته كذبا وزورا (عاصفة الحزم!) تسابقتم إلى التأييد والترحيب، واليوم بعد أن خربت اليمن لا يسمع لكم صوت! ومِن قبلُ عندما استعانت دول الخليج بأمريكا للتدخل في العراق بادرتم إلى إصدار الفتاوى المجيزة والمبيحة والمحبذة، وبعد أن خربت الديار لم نسمع لكم تعليقا ولو بالوقوف على الأطلال!
أنتم تعلمون علم اليقين أنّ حكومة الوفاق هي الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا، وأن حفتر انقلابي مجرم منقلب، ومع ذلك عندما تتدخل روسيا لدعم الانقلابيّ المجرم الذي لا شرعية له تصمتون، وعندما تعقد حكومة الوفاق الشرعية تحالفا عسكريا تتوفر له مظلة شرعية دولية تصرخون! بما يعني أن وجود تركيا المسلمة في المعادلة تدخل أجنبي مرفوض، أما تدخل روسيا وإيران في سوريا ثم تدخل روسيا وفرنسا وإيطاليا في ليبيا فهو أمر شرعي مقبول!! فما أنتم برب السماء؟!
أتحداك يا شيخ الأزهر أن تدعو السيسي إلى الجهاد المقدس لتحرير النيل العظيم من أسر حكومة أثيوبيا التي بالغت في تعنتها وتطاولها حداً أهدر كرامة الأمة الإسلامية برمتها، أتحداك أن تصدر بيانا تعترض فيه على أداء السيسي تجاه ملف سد النهضة؛ ذلك الأداء الذي جمع بين العمالة والمفرطة والسخافة المخجلة، فإن فعلت غفرنا لك كل ما مضى من مواقفك المخزية، وإلا فأنت لست سوى فقاعة كاذبة وبالونة فارغة.
وعتبي ليس عليك، إنما على إخوة لي بالغت في تحذيرهم من الغرور بك، ولكنهم يبالغون في إحسان الظنّ بالناس، وتلك مثلبة والله وليست منقبة؛ كما قال الشاعر:
ووضع الندا في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندا