الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليست الانقلابات العسكرية إلا صورة واحدة من صور الانقلاب، لكنها هي الأوضح والأوقح، وما عداها من صور قد تكون هي الأفحش والأفدح، لقد كان انقلاب 15 تموز 2016 وقحاً إلى حد يثير كل مشاعر القرف والاشمئزاز، لكنه كان سافراً وصريحاً؛ لذلك لم يتردد الشعب في مواجهته والتصدي له، ولم يتخلف الأحرار عندما ناداهم الزعيم؛ فخرجت الجموع إلى الشوارع بصدور عارية لا تهاب الموت ولا ترهب القتلة المجرمين، أمَّا الصور الأخرى من الانقلابات فلها شأن آخر؛ إنَّها ألين من جلد الأفعى، ولكنها تحمل في رآسها السم الزعاف والموت الزؤام، وصدق الشاعر:
“إنّ الأفاعي وإن لانت ملامسها عند التقلب في أنيابها العطب”
إنّ الانقلاب الأكبر والأخطر في تاريخ تركيا كله هو ذلك الذي يسعى الآن نحو السيطرة بخطى حثيثة، هو ذلك التنين المرعب الذي يتربص بالأمّة التركية، ويستعمل كل أساليب المخاتلة والمراوغة حتى لا تناله عين الفراسة ولا تطاله يد الكياسة، هو ذلك الذي يمتطي صهوة السياسة ليغتال مشروعاً نهضوياً يوشك – لولا كثرة العراقيل – أن ينقل تركيا إلى مستوى المنافسة على مقاعد الدول العظمى، هو ذلك الحراك المريب الذي يتخذ من تحالف الأضداد المتنافرة سبيلا للتكتل، ومن عجلة الجماهير ذريعة للتهييج، هو ذلك (الكرتون) الفارغ المترع أوهاماً سرابية لا يخجل أن يسميها مشروعاً ورؤية.
إننا أمام عملية انقلاب تسابق الزمن حتى تُنَفِّذ مخططها قبل أن تحترق ويفتضح زيفها وينكشف عوارها أو تسقط بعامل الزمن بسبب ضعفها الذاتيّ، إنَّها تمارس الضغط السياسيّ والدغدغة الإعلامية عبر ملفات لا تكترث بها الشعوب إلا قليلا، من هذه الملفات الملف الإنسانيّ، فمن المعلوم والمشاهد أنّ تركيا قد سبقت كل دول العالم في مراعاة البعد الإنسانيّ، وفي الاهتمام بقضايا المستضعفين ولا سيما المسلمين منهم، وهذا هو ما يليق بأمّة حكمت العالم بالعدل والرحمة خمسة قرون أو يزيد، لكن الناخب لا يعنيه شيء من هذا، فإذا تم ربط هذا الملف بالحالة اقتصادية الطارئة وإذا قيل للمواطن البسيط إنّ السبب في الغلاء والتضخم وهبوط العملة هو هذا الموقف الإنساني تجاه المستضعفين وُضِعَت القيادة السياسية في حرج بالغ؛ لكونها لا تستطيع التخلي عن مبادئها ولا تملك ما تمنع به الشعب من الغضب.
والملف الثاني هو ملف استعادة الهوية الثقافية والحضارية للأمّة التركية، وهو بلاشك ملف غاية في الحساسية والتعقيد؛ حيث يمثل في المشروع النهضويّ للبلاد – وهو كذلك لكل نهضة في كل أمة ناهضة – يمثل طاقة دافعة وصمام أمان دائم، والآن يتم الضغط بهذا الملف عبر عملية تههيج للوساوس والمخاوف، ومن خلال إيصال رسالة للجمهور أن حريتهم في خطر وأن علمانيتهم على شفا جرف هار، فيكون السعي لإقناعهم بزيف هذه الرسالة مكلفا، ويكون التراجع عن مشروع الهوية أشد كلفة، والعابثون في أبراجهم يتسلون بالمشهد الجدلي الديالكتيكي داخل المجتمع وهم لا يخسرون شيئا، بل يربحون بالحرام؛ حيث يقدمون أنفسهم على أنهم هم البديل، مع أنهم لو استؤمن أحدهم على قطيع من الماعز لأضاعه في الشعاب أو أهداه للذئاب!!
أمّا الملف الثالث فهو ملف العلاقات الخارجية، فحيث لا يفهم الدهماء كثيرا في إدارة الصراع مع القوى العالمية الجهنمية، وحيث لا تفرق الجماهير بين الحدود الجغرافية والحدود الجيوسياسية، وحيث لا يعني العامة إلا لقمة العيش والهموم الحياتية، وحيث لا يكترث بأهمية استقلال القرار السياسيّ إلا القليل؛ يسهل جداً على المتربصين أن يبيعوا للناس جنة موهومة، يكون فيها وطنهم كقصر عليه سور مزين بالورود، يوجد في محيط (صفر مشكلات!) مع الآخرين، ويصير مقبولاً أن يقال: ما لنا وللشرق الأوسط؟ ما لنا وللدول المجاورة؟ ما لنا ولكذا وكذا؟ بينما هؤلاء العابثون بوعي الشعوب لا يعنيهم هذا كثيرا، فلو ملكوا لدخلوا في الطاعة للنظام الدولي، ويومها لن يرحمهم هذا النظام ولا شعوبهم، ويومها لن يكون للشعوب فرصة لاستدراك ما فاتها؛ لأنّ الانقلاب سيكون قد أتى على البنيان السياسي الرشيد من قواعده، وقتها سيندم الجميع؛ ولات ساعة مندم.
إنّ الشعب الذي وقف في وجه الانقلاب العسكريّ الغاشم هو ذاته الشعب الذي يجب أن يقف في وجه الانقلاب المتسربل بالحالة السياسية والمتبرقع بالواحهة الإعلامية، إنّ الشعب بوطنيته وهويته العريقة الممتدة في أعماق التاريخ هو القادر على دحر كل محاولة لوقف مسيرة النهضة، وذلك بالتأبي على الخداع والاستعصاء على الختل، والترفع فوق دعوات الهدم والرجعية.
وبهذا المنطلق الواعي يكون 15 تموز ذكرى وتذكرة، ذكرى مجيدة نحتفل فيها بالأمجاد وندعو فيها للشهداء، وتذكرة لتنمية الوعي وشحذ الهمم للتصدي لكل محاولات الانقلاب في أي صورة أتت، وسلام على الشهداء الأبرار، وعاشت تركيا حرة أبِيَّة وقلعة عَصِيّة.