حكمة الصيام

كثيرة هي حكم وفوائد الصيام، لكن جماع هذه الحكم ينطوي عليه هذا التعليل اللافت للنظر في آية الصيام من سورة البقرة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ فالتقوى – إذاً – هي الثمرة الكبرى للصيام، ومنها تتولد كل الحكم والفوائد، التقوى .. تلك الحاسة الإيمانية القلبية التي تقي المسلم من الوقوع في مساخط الله تعالى، وتجعل بينه وبين غضب الله وقاية بالعمل الصالح الخالص لوجه الحق تبارك تعالى، وتحيي القلب بالمراقبة والخوف والوجل والحياء من رب العالمين الذي يعلم السر وأخفى.

والصيام يربي القلب على التقوى من خلال ثلاثة روافد، كل رافد منها يصب عنصراً من عناصر التقوى، الأول رافد المراقبة: فالصيام يربي المسلم على مراقبة ربه في سره، إذ لا رقيب عليه إذا خلا بشهواته وتوارى عن أعين الخلق إلا الله تعالى، فإذا ما حمل نفسه في سره على الامتناع عما أمر الله بالامتناع عنه لنظر الله إليه كان ذلك تنمية وتربية لحاسة المراقبة التي ترفع درجة الإيمان في القلب إلى حال الإحسان، وهي أعلى مراتب الدين، كما جاء في حديث جبريل:” الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” هذا هو الرافد الإول من الروافد التي تصب التقوى في قلب المسلم بفعل الصيام.

الرافد الثاني هو رافد الاستسلام: الاستسلام الذي هو جوهر الإسلام، الاستسلام لأمر الله وشرعه، ويتجلى الاستسلام في استجابة المسلم لأمر الله عندما أمره بترك بعض ما أحل الله له مدة من الزمان محددة بتواقيت معينة، وهو بهذه الاستجابة يدور مع الحل والحرمة في يد الشرع الحنيف مستسلماً راضياً، وهذا هو الاستسلام الذي يتربى عليه العبد في الصيام ليستصحبه في شئون حياته كلها، ليحقق العبودية، وهذا هو عين ما أراده الله منا عندما قص علينا خبر استسلام إبراهيم وإسماعيل لأمر الله لهما بأن يذبح الأب ولده: ﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾ فهذا الاستسلام هو الضامن للاستقامة التي إذا اجتمعت مع الإيمان فلا شئ بعدهما يطلبه الطالب: ﴿ قُلْ آمَنْتُ بِالله ثُمَّ اسْتَقِمْ ﴾.

أما الرافد الثالث: فهو تخفيف وطأة الجسد عن الروح لتخف وتحلق في أفاق الروحانيات، فإذا كان الإنسان مركباً من قبضة طين ونفخة روح فإن الحقيقة التي لا مرية فيها هي أنه كلما استغرق الجسد في شهواته وملاذه ضيق على الروح المنافذ ووضع عليها القيود، وكلما تخفف الجسد من شهواته مرضاةً لربه أفسح للروح المجال وأطلقها من قيود المادة لتحلق في الملأ الأعلى فترتوي من المعاني الإيمانية التي تغذي شجرة التقوى في القلب، وهذا بلا شك حاصل في الصيام وبخاصة صيام رمضان.

هذه الحكمة الكبرى بما تتضمنه من فوائد وحكم يجب لكي تتحقق أن يزال من طريقها ما يشوش عليها من الأعمال القلبية والشعورية والمادية، يجب ألا يكون الصيام في حياتنا مجرد عبادة اعتيادية درجنا عليها حتى غلب عليها طابع العادة الاجتماعية التي تؤدى بلا روح كالصلاة التي تؤدى بلا خشوع، بل يجب أن نستحضر في صيامنا معنى الطاعة والاستجابة والاستسلام والدينونة لله رب العالمين، ويجب أن نبتعد عن العادات التي حولت رمضان إلى شهر الملذات الخاصة والاأطعمة الخاصة والبرامج الترفيهية الخاصة، لأن ذلك يفصي إلى إفراغ الصيام من مضمونه، وإن كانت التوسعة غير ممنوعة ولا مكروهة، ولكنها عندما تتجاوز حدها إلى السرف الذي يجعل الصيام بالنهار مجرد توطئة لتشويق البطن لما سيأتيها من الأطايب وأصناف الطعام والشراب يصير الصيام شكلاً بلا مضمون وجسداً بلا روح، نحن بحاجة إلى أن نستفيد من رمضان أقصى ما يمكننا ذلك، ونحن بعون الله قادرون على ذلك إن أردناه، والله المستعان.