((نعمتان مغبون فيهما كثير مِن الناس: الصحَّة، والفراغ))
هذا الحديث الشريف الذي رواه البخاري في صحيحه يفتح أمامنا أفقًا رحيبًا من آفاق التربية الرشيدة، ويلفت نظرَنا إلى أن الإنسان يَمضي في دُنياه بين قوتين: طاقة تدفع، وفراغ يَبلَع؛ طاقة كوقود السيارة، وفراغ كالطَّريق الذي يمضي فيه فيجذبها إلى الغاية التي تَندفِع إليها.
فلا مناص – إذا أردنا للجيل أن يسلك السبيل – مِن إفراغ طاقاته فيما يَنفع ويُفيد، وشغلِ فراغه بالنافع المفيد، وإلا صار جيلاً مغبونًا في نعمتَين من نِعم الله تعالى عليه؛ فإمَّا أن تدمِّره طاقاتُه البركانية، وإمَّا أن يضلَّ في فراغاتِه الصحراوية.
إن الإنسان كائن متحرِّك فعال، إذا لم يَشتغِل بالحق، اشتَغل بالباطل، وإذا لم يسْعَ في الخير، سعى في الشر، وإذا لم يكن كالغَيث أينما وقَع نفَع، صار كالسُمِّ أينما حلَّ قتل؛ لذلك كان من تمام توبة التائبين أن يُحِلوا العمل الصالح محلَّ العمل الفاسد؛ قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ﴾ [مريم:60].
وإن المربي الواعي هو الذي يُخطِّط لشغل الفراغ الذي يُحيط بالنشء، ولاستفراغ الطاقات التي تتأجَّج في كيانهم، ويَنظر بخبرته وتجارِبه وما تعلَّمه عن الإنسان إلى تكوين ولده، فيكتشف قدراتِه وطاقاته وإمكاناته ومواهبَه، ثم يتحرَّك في ضوء ما اكتشفه إلى فتْح المجال لهذه الطاقات لتخرُج في مساراتها الصحيحة.
ولقد استطاع المربي العظيمُ محمد – صلى الله عليه وسلم – أن يغيِّر وجهَ الأرض عندما اكتشف المواهبَ والطاقاتِ المتنوِّعة لأصحابه وأتباعه، وفتح لها الأبوابَ لتَنطلِق، ومهَّد لها السبيل لتندفع رشيدةً إلى غايتها، فنجح في أن يُرَكِّب من الألواح المبعثَرَة سفينةً ماخِرةً، تشقُّ طريقها فوق ثبَج الأمواج المتلاطمة.
ولسوف نجد أولادَنا سعداءَ وهم يشغلون فراغَهم، ويستخرجون طاقاتِهم في القراءة والكتابة، أو في الرياضة، أو في ممارسة هوايات مُنتجِة كتربية النحل أو الطيور أو دودة الحرير، أو في الرحلات والكشافة، بالإضافة إلى العبادات المحبَّبة، وحفْظ القرآن، وتعلُّم العلوم الشرعية، ولسوف نَغتبِط بذلك كثيرًا، خاصة إذا نجحْنا في اكتشاف مواهبهم، وفي حسن توجيههم.