في سورة القصص، وفي سياقٍ يطلق نسائم البشرى لهذه الأمة جاء ذكر الكلمة الحسنى والقضاء الحسن الذي قضى الله به لبني إسرائيل، قال تعالى: ﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ ﴾ [القصص: 5 ، 6].
وفي سورة الأعراف، وفي سياقٍ يؤكد البشرى لهذه الأمة جاء الخبر بأن الله أتم كلمته الحسنى على بني إسرائيل ومكن لهم وأورثهم الأرض المباركة، قال تعالى: ﴿ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ ﴾ [الأعراف137].
ولقد تحقق للأمة الإسلامية ما وعدها الله تعالى من التمكين، ونحن على يقين من أن الله تعالى سيتم كلمته الحسنى على هذه الأمة في حياتها المعاصرة مثلما أتمها عليها في عهدها الأول، قال تعالى: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [ النور 55 ]
لكن ينبغي ألا نغفل عن حقيقة تاريخية هامة، وهي أن بلوغ بني أسرائيل للتمكين الذي وعدهم الله تعالى به تأخر زماناً طويلاً وتعوقت مسيرته كثيراً بعد هلاك الطاغية ونظامه ونجاة المستضعفين من بطشه، فقد مكث بنو إسرائيل طويلاً بسيناء التي لم تكن تمثل لهم سوى معبر يعبرون خلاله إلى الارض الموعودة، وكاد الأمل ينسى؛ لطول المرحلة الانتقالية الممتدة من النجاة ونيل الحرية إلى التمكين والبناء والنهضة، والذي يبدو جلياً من سياق الأحداث أن الافتعال كان هو الصبغة الغالبة التي غلبت على طبيعة المرحلة، الافتعال للأزمات، والافتعال للمواقف المعوقة، والافتعال لكل ما من شأنه أن يغرق الناس في بحر لا ساحل له من الخلاف والمدافعة.
وهنا يأتي التحذير النبوي ليتجاوز بنا كل تلك المعوقات وليخلصنا من كل تلك العقابيل، فعن أبي سعيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، شبراً بشبر وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قيل له: اليهود والنصارى، قال: فمن رواه البخاري (3456)، ومسلم (2669)
فما هي المعوقات التي أخَّرت بني إسرائيل – بعد نجاتهم من فرعون بمعجزة ربانية – عن بلوغ التمكين ودخول الأرض المباركة التي وعدهم الله إياها، والتي يتحتم علينا – بعد نجاتنا من فرعون هذا الزمان بمعجزة ربانية لا تقل في إعجازها وإبهارها عن معجزة انفلاق البحر بضربة عصا – أن نتحاشاها لئلا نقع في مثل ما وقعوا فيه، ولئلا يتأخر موعود الله لنا مثلما تأخر موعود الله لهم ؟؟
من تتبع سياق الأحداث، ووقف مع الآيات التى عالجتها تبين له بوضوح أن هناك خمس معوقات يردّ إليها هذا التأخر، أولها: الانبهار بما في يد الغير مما يخالف منهج الله وشريعته، ثانيها: اتباع كل ناعق، ثالثها: الحنين إلى الماضي برغم ظلامه، رابعها: الجدل واللجاج وخلق حالة من الشكوك المستمرة، خامسها: التقاعس والتطاول.
فأما الأولى: وهي الانبهار بما في يد الغير مما يخالف منهج الله وشريعته، فقد وقع من بني إسرائيل عندما طلبوا من موسى أن يجعل لهم مثل ما يعبده أناس مشركون، برغم التضاد الواضح بين ما طلبوه وأعجبوا به وما عندهم من الدين والعقيدة والشريعة، قال تعالى: ﴿ وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف 138-139].
وأما الثانية: وهي اتباع كل ناعق، فقد وقع من بني إسرائيل أنهم اتبعوا ناعقاً من جلدتهم دعاهم إلى ما يضاد عقيدتهم التي ما نجوا إلا بها، وهو السامري، ذلك الدعي – الذي توجد نسخ كثيرة منه في حياتنا المعاصرة – دعاهم إلى اتخاذ العجل معبوداً لهم، ونعق فيهم: “هذا إلهكم وإله موسى فنسي” تماماً مثلما ينعق الغربان السامريون في سماء مصر الآن بشعارات تلبس لبوس الثورة وما هي إلا الثورة المضادة بعينها.
قال تعالى: ﴿ وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ * وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [ الأعراف 148-149].
وأما الثالثة: وهي الحنين إلى الماضي فتمثلت في ذلك الطلب العجيب الذي لا شبه له في التاريخ إلا مقولة: ” ولا يوم من أيامك يا مخلوع ” حيث طلبوا من موسى أن يدعو الله أن ينبت لهم مالا ينبت إلا في أرض الماضي، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ ﴾ [البقرة 61].
وأما الرابعة: وهي الجدل واللجاج وإثارة الشكوك في كل شئ فقد بلغت بهم إلى حد أنهم طلبوا من نبيهم أن يروا الله جهرة وجعلوا ذلك شرطا لتصديقهم الخبر واتباعهم الشرع، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة 55 – 56] وهذا المسلك جعلهم غير قابلين للحق إلى درجة أنهم لم يأخذوا به إلا بعد أن أوقع الله بهم هذا التهديد المباشر: ﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آَتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [الأعراف 171].
وأما الخامسة: وهي التقاعس والتطاول فلا أدل عليها من موقفهم الأخير الذي كان السبب المباشر – وإن لم يكن الوحيد – في ضرب التيه عليهم بسيناء أربعين سنة: ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ﴾ [المائدة: 20 – 26]
تلك هي الخمس التي عوقت مسيرة الإصلاح والبناء وعطلت وأخرت التمكين والاستخلاف مدة لا تقل عن نصف قرن من الزمان، وكان من المفترض بحكم الواقع أن يتصل البناء والإصلاح بالحدث المعجز الذي نجاهم الله به من الطاغية ومنحهم حريتهم، فوقع في تاريخ بني إسرائيل فاصل لا مبرر له ولا حاجة لهم به، وهذا هو عين ما نخشاه على أنفسنا إذا لم ننتبه لذلك.
من هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً في كل موقف له علاقة باتباع سنن هؤلاء على أن يبين ويحذر، عن أبي واقد الليثي ، قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بالكفر، وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم، يقال لها: ذات أنواط، فمررنا بسدرة فقلنا: يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” الله أكبر، إنها السنن. قلتم ـ والذي نفسي بيده ـ كما قالت بنو إسرائيل لموسى: ﴿ اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ﴾ [ الأعراف – 138 ] لتركبن سنن من كان قبلكم . الترمذي الفتن (2180) ، أحمد (5/218).
والذي أنصح به كمعين لتلافي الأخطاء الخمسة تلك هو أن نقف وقفة قوية تجاه إعلام الفتنة، وأن ندعو الناس دعوة عامة لمقاطعة عامة وشاملة لقنوات وصحف وسائر وسائل إعلام الفتنة، تلك الأدوات الجهنمية التي أغرقت المجتمع في حالة من الحمى الكلامية والجدل المحبط، وسط زخم شديد خلعته على أبناء سلول وسامريي العصر الذين ينعقون في سماء مصر بلا كلل ولا ملل، ويسكبون كل يوم بنزين الصدام على حطام الكلام.