من وحي العيد

أقبل العيدُ باسمًا، فنفث في المكان والزمان أثيرًا ساحرًا، أثيرًا طاهرًا، أثيرًا يملِك قدرةَ النور على تمزيق رداء الظلام، وقدرةَ الغيث على شقِّ الصمت الذي أرساه الموات، وأطلق في هذا الأثير العبقريِّ أطيافًا سابحة في لُججه الرحيبة، هائمة في جنباته الوسيعة.

ما أحوجَ المسلمين إلى استنشاق هذا الأثيرِ الطهور، وما أجدرَهم باستقبال هذه الأطيافِ والاحتفاء بها، والإصغاء إلى ما توحيه من معانٍ، وما تُمليه من دروس وعِبَر!

وليس غريبًا – ما دام التاريخ مليئًا بالذكريات العظام – أن تتزاحم الأطياف، وأن يموج بها الأثيرُ ويضطرب، وأن تتبارى في قرع الأسماع، وخَطْف الأبصار، وغَزْو القلوب، والعزف على أوتار المشاعر والضمائر.

وإننا في هذا الجو الذي يفرض نفسه، ويُملي على الدنيا قانونَه، لا نملِك إلا الاستسلامَ للأحكام، والإصغاء للإملاء.

هذا طيف الخليل، وهو عائدٌ إلى الشام بعد أن خلَّف وراء ظهره فِلْذةَ كبدِه وثمرةَ فؤاده، وتركه بين فكَّيِ الوادي الجَدْب القابع في قاع الصحراء، الصحراء الغارقة في الصمت المميت، ها هو بعد أن مضى ساعة يقف وكأنما تساوت في كيانه قوتان: قوة الجذب التي تشده إلى الوراء بعاطفة الأبوة وحنينها، وقوة الدفع التي تُلزمه بالمضي قُدمًا في الوجهة التي أمره الله – تعالى – بها، وها هو يرفع يديه إلى السماء ويدعو ضارعًا ﴿ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ… ﴾ [إبراهيم: 37].

وإذا كانت الإنسانية قد اختُزلت في بيت إبراهيم – عليه السلام – حيث إنه البيتُ الوحيد الذي لم يقتلعْه طوفانُ الجاهلية آنذاك؛ فإنه بالإمكان أن نقول: إن الإنسانيةَ قد تعذبت كثيرًا من أجل أن تسكن البَذرةُ الطيبة في التربة المباركة، ومن أجل أن تتمخض هذه العملية الكبرى عن إنبات الدوحة العظمى: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ﴾ [الفتح: 29].

إن إبراهيمَ – عليه السلام – لم يأتِ إلى هذا المكان إلا لمهمة واحدة محددة، هي غرسُ البَذرة الطيبة “إسماعيل” في التربة المبارَكة “مكة”، ولم تكنْ تلك التجربةُ الفذة التي قام بها إنسان وصَفَه القرآن بأنه أمَّة؛ لكونه قد اختُزلت فيه الإنسانية آنذاك – لم تكن تلك التجربةُ إلا ستارًا لقدرة الله وحكمته، الذي شاء – ولا رادَّ لمشيئته – أن يُخرِجَ إلى الإنسانية خيرَ أمَّة وخيرَ نبي، وأن يكون هذا الإخراجُ الكريم من خيرِ بقعة وأطهرها على هذا الكوكب، من جوار أول بيتٍ وُضِع لعبادة الله في الأرض، وجُعل مثابةً للناس وأمنًا؛ لذلك روى القرآن الكريم دعاءهما وهما يرفعان القواعد من البيت: ﴿ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [البقرة: 128-129].

وإذا كان وضْع البَذرة الأولى للأمة الإسلامية قد استلزم من الإنسانية هذه المعاناة، فإن وضْع اللَّبنات الأولى للدين الإسلامي قد استلزم من الإنسانية معاناةً أشدَّ؛ فلقد جاء إبراهيمُ – الذي اختُزلت الإنسانية فيه آنذاك – جاء ثانية إلى البقعة المباركة، لا ليتركَ ولده فريسة الوحْشة، وإنما ليسلمه بحدِّ شَفرته إلى حتفه ونهايته، ومثلما كانت التجربة الأولى بأمرٍ سماويٍّ، كانت هذه الأخرى بأمرٍ سماويٍّ، ولم يكن أمامه إلا أن يمضي.

ومضى إبراهيم إلى مِنًى يحمل في يده المُديةَ، ويحمل في قلبه خَنجرًا نافذًا، ومضى على أثره الغلامُ لا يلوي على شيء، ولا يرى الجُرْح النازفَ في قلب أبيه.

وما لبِثَا أن وصلا إلى الساحة التي شهدت المعجزة، يقف الشيخ “الأمَّة”، ويقف أمامه الغلامُ “بَذرة الخير”، وبلا أدنى تلعثمٍ أو تردد يتلو الأبُ على ابنه أمْر الإله: ﴿ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾ [الصافات: 102]، وهنا يَسكن نبضُ الوجود، ويُرهف الكونُ سمعَه: ماذا عسى أن يكون جواب الغلام؟ وكانت المفاجأة التي فجَّرت صبح الإسلام: ﴿ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾ [الصافات: 102]، عندئذٍ كان حجَرُ الأساس لدين الإسلام قد أُرسِيَ على نفس التربة التي وُضِعَت فيها البَذرةُ الأولى للأمة الإسلامية.

إن جوهر الإسلام ولُبَّه ليس إلا الاستجابة لأمر الإلهِ، مهما تعارضت معه رغبةُ النفس، ومهما بدا للنظرة السطحية أنه مخالفٌ للمصلحة، أو مناقضٌ للمنطق.

ولا تزال الأمَّة الإسلامية تحيي ذكرى هذا الحدث الأم؛ لتتذكر دومًا وهي تذبح الهَدْي والأضاحي في صبيحة العيد أن اللهَ – عز وجل – قد امتنَّ على الإنسانية بهذا الفداء الذي نزل من السماء، وبهذا الحدث الباهر الذي كرَّس في ضميرها معنى الإسلام، الذي هو الاستسلام والانقياد والإذعان والدَّيْنونة لله وحده بلا شريك.

ويسبح طيف إبراهيم وإسماعيل وهاجرُ في الأفق البعيد؛ لتظهر لنا صورة الحجيج، وهم يقفون بعرفات، ويرمون الجمرات، ويطوفون بالبيت، ويسعَوْن بين الجبلين الكريمين: الصفا والمروة.

إن هذه الشعائرَ الكبار التي تمضي فيها الأمَّةُ على أثر النبيِّ الأمَّةِ إبراهيمَ – عليه السلام – لتنطوي على دروس كبارٍ، وعِبَر عظام، لا يسع الأمةَ إلا أن تتلقاها وتتملاها، وإلا كان حَجُّها مجرد رسومٍ تؤدَّى، وطقوس يغلب عليها الشكلُ، وينضَبُ فيها المضمون.

إن وقوف الحجيج بعرفات – وهم بعث الأمة الإسلامية وممثِّلوها في حضرة الملِك الجليل – ليس مجردَ وقوف للدعاء والذِّكر والتلبية في مكان اختاره الله لهم، وإن كان هذا مقصودًا، وإن كانوا مأجورين عليه ولو لم يستوعبوا منه الدرسَ الكبير، ولكنه بالأصالة وقوفُ الامتثال.

إن امتثالَ الأمة الإسلامية لأمر ربها – لكي يكتملَ – يلزمه أن تقفَ الأمَّةُ حيث أوقفها الله؛ لئلا تتجاوز – في غمرة الانطلاق – حدود الله، وفي مقدمة الأمور التي يجب أن تقف عندها حيث أوقفها اللهُ – أمْرُ التشريع، قال – تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الحجرات:1].

وإن السَّعيَ بين الصفا والمروة لَمِن أجَلِّ الأعمال التي تكرِّس في الأمة الإسلامية معنى الاتِّباع، الاتباع بمعناه الواسع الأصيل، الذي لا يمكن أن ينحصر في طوق الاصطلاح الفقهي الأصولي المتأخر، الاتباع الذي عناه القرآن بلفظه العربي الرحيب العميق: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ﴾ [الأعراف: 3]، ﴿ اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 106].

وإن اندفاعَ بَعْث الأمة ووَفْد الله في المسعى خلف طيف أمِّهم هاجَرَ ليؤكدُ للدنيا أن هذه الأمةَ أمةٌ متَّبِعة، لها طريقها الذي تمضي فيه خلف رموزها، ولها دستورها الذي يرسم لها طريقَها، ويضع لها على جانبيه المعالمَ البارزة، وليست بحاجة إلى قدوة من هنا، أو أسوة من هناك، وليست مفتقرةً إلى من يعرِّفها طريقها، أو يفسِّر لها دينها، إنها أمة متَّبِعة، لها رموزٌ انغرست في ضمير الوجود، ووقفت فيه صامدةً تحمل مشاعل المنهج الرباني؛ فلم يستطعْ أن يحلحلها مَرُّ الدهور، وكرُّ العصور.

وإن رمْيَ الحجرات الذي تتدافع فيه الأمة، ويزاحم بعضها بعضًا، ويركب بعضها بعضًا، ليس إلا حركةً ظاهرة بارزة تجسِّد حركة النفس وهي ترفض الباطل، وتهدم الفساد، وتكفُر بالطاغوت كله، الحركة التي يتمثل فيها الدفع الخلفي: ﴿ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا ﴾ [البقرة: 256].

أما طواف الأمَّة بالبيت العتيق:

فهو محاكاةٌ لكل مجموعة متماسكة في هذا الكون، ومضى على السنن العام لهذا الوجود، فدورانُ النَّسماتِ المسلمة حول كعبة الله في نفس الاتجاه الذي تدور فيه الجسيمات الصغيرة حول نواة الذرة، وتدور فيه الكواكب العملاقة حول الشمس، في عكس اتجاه عقارب الساعة، إن هذا الدورانَ حول المحور الثابت لهو السببُ الأصيل في تماسُك الكون كله، من الذَّرة إلى المجرة، وإن طواف المسلمين حول الكعبة ليرمز إلى هذا التماسك الضروري الذي لا يتحقَّق إلا بأمرين:

الاجتماع والاتباع؛ الاجتماع الذي يمثله الطواف، والاتباع الذي يمثله وقوع هذا الطواف مشدودًا إلى قطب واحد ومحور واحد، وإنه المعنى الذي يكرِّسه قول الله – عز وجل -: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].

وها هو طيفُ إمام المرسلين وخاتم النبيين محمد – صلى الله عليه وسلم – وهو على مِنبره الطهور – ظهر القصواء – يخطب في الأمة الإسلامية من مِنًى ومن عرفات، وها هو التاريخ يُذيع ويبلِّغ: ((فإن دماءَكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرامٌ كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا)).

((فاتقوا اللهَ في النساء؛ فإنكم أخذتموهن بأمانِ الله، واستحللتم فروجَهن بكلمة الله)).

((وقد تركتُ فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله)).

إن هذه الكلماتِ ليست مواعظَ متفرقة، كيف وهي نصوص ومواد الكلمة الختامية التي ودَّع فيها الرسولُ أمتَه؟ إنها اللمساتُ الأخيرة للدوائر الثلاث: دائرة الأسرة، ودائرة المجتمع، ودائرة الدولة.

فالأسرة لا صلاح لها إلا بقيام العلاقة بين قطبيها على الخير، الذي يبدأ بغرس أصوله – ومن جذوره – ربُّ الأسرة ومسؤولها الأول.

والمجتمع لا صلاح له إلا بأن تُصانَ حرمةُ الأموال والدماء والأعراض.

والدولة لا صلاح لها ولا رشاد إلا بأن تكون مرجعيتها الوحيدة: كتاب الله، وسنة رسول الله – صلى الله عليه وسلم.

بهذه المعاني ندرك أن فضلَ الله علينا عظيمٌ، ونفرح بذلك: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [يونس: 58].

ومن أجْل هذه الدروس الكبار نكبِّر:

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله،

الله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد.