عقد التأمين في صورته الحالية من العقود الحديثة التي لم تقع في الماضي؛ وهو عقد “يهدف إلى توفير نوع من الضمان للجماعة من نتائج الأخطار التي تهدد حياتها أو أموالها؛ ذلك أن أشد ما يشغل بال الإنسان العاقل هو المستقبل أو الغد، والحاجة إلى الأمان هي التي تدفع الإنسان لأن يعمل لحياته ومستقبله ” ونظرا إلى أنه عقد مستحدث فإن الفقهاء المعاصرين قد اجتهدوا في الحكم عليه في ضوء الضوابط الفقهية والأحكام الشرعية الثابتة.
وفيما يلي بيان موجز لما انتهت إليه الدراسة المعاصرة لهذا العقد:
تعريف التأمين لغة واصطلاحا:
التأمين في اللغة: من الأمن وهو ضد الخوف، وهو يدور حول الطمأنينة والاستقرار النفسي، يقول الأمير للخائف: لك الأمان، أي: قد أمنتك‘ والأصل أن الأمن يستعمل في سكون القلب.
أما في الاصطلاح: فقد عرفه القانون المدني المصري بأنه “عقد يلزم المؤمن بمقتضاه أن يؤدى إلى المؤمن له مبلغا من المال أو إيرادا مرتبا أو أى عوض مالي آخر في حالة وقوع الحادثة أو تحقيق الخطر المبين بالعقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمن له للمؤمن”.
ويلاحظ أن هذا التعريف عام، لا يخص نوعا معينا من أنواع التأمين.
أقسام التأمين:
ينقسم التأمين من الناحية الفنية التنظيمية إلى ثلاثة أنواع:
الأول: التأمين التجاري.
الثاني: التأمين التبادلي (التعاوني)
الثالث: التأمين الاجتماعي
وينقسم من جهة الموضوع إلى أنواع عدة أهمها:
1- التأمين البرى والبحري والجوي والنهري.
2- تأمين الأضرار:
وهو ينقسم إلى نوعين:
تأمين الأشياء: كالتأمين ضد الحريق أو السرقة.
التأمين من المسئولية.
3- تأمين الأشخاص:
وهذا النوع بدوره ينقسم إلى أنواع أهمها:
أ- التأمين على الحياة: وهو إما لحالة الوفاة أو لحالة البقاء أو مختلطًا.
ب- التأمين من المرض (التأمين الصحي)
ت- تأمين الزواج.
ث- تأمين الأولاد.
التمييز بين أقسام التأمين:
إذا كان الحكم على الشيء فرعًا عن تصوره؛ فإن التأمين التجاري أول ما يميزه أنه عقد معاوضة، يلتزم فيه المؤمن (شركة التأمين) بأن يدفع للمستأمن مبلغًا متفقًا عليه عند وقوع الخطر المنصوص عليه في العقد، كالحادث أو الحريق أو الوفاة أو المرض. وذلك مقابل أقساط دورية يدفعها المستأمن (الشخص المؤمن له).
الأمر الثاني الذي يميز التأمين التجاري أن التضامن بين المستأمنين معدوم؛ لأن شركة التأمين التجاري تتعاقد مع كل واحد من المستأمنين على حدة، فتتقاضى منه أقساطًا ثابتة وتلتزم بدفع مبلغ التأمين عند وقوع الخطر، فإن بقيت فضلة من المبالغ استأثرت بها شركة التأمين على سبيل الاسترباح وإن كان خسر تحملته وحدها، وليس ثم تضامن بين المستأمنين ولا تنسيق.
أما التأمين التعاوني (التبادلي) فإن أهم ما يميزه عن التأمين التجاري أمران:
الأمر الأول: أنه عقد تبرع وتكافل وتعاون، وليس عقد معاوضة، فهو “لا يقصد به المعاوضة، وإنما هو إرفاق تعاوني بقصد التضامن بين جماعة من الناس يتعرضون لأخطار من نوع واحد في معاونة من يتعرض منهم للخطر على تفادى آثاره”.
الأمر الثاني: هو أن “المؤمن والمستأمن في هذا النوع جهة واحدة؛ فإن زادت الأقساط المدفوعة عن مبالغ التأمين المستحقة كانت هذه الزيادة لجماعة المستأمنين، وإن نقصت طولبوا بتغطية العجز، وهم لا يسعون لتحقيق ربح من وراء هذا التأمين، بل لجبر الخسائر التي تلحق ببعضهم” فالتبرع هو الأصل، والتضامن قائم بين الجميع، والتعاون والتكافل متحقق، ولا ينفصل المؤمن عن المستأمن.
أما التأمين الاجتماعي فإن أهم ما يميزه عن النوعين السابقين أمران:
الأول: أنه إجباري تفرضه الدولة فرضًا على رعاياها؛ لمصلحتهم ولتأمين مستقبلهم.
الثاني: أن الذي يقوم بدفع أقساط التأمين ليس المستأمن “المؤمن له” وحده وإنما يشترك معه في ذلك الدولة وجهة العمل.
هذا، ويتفق التأمين الاجتماعي مع التأمين التعاوني في أنه عقد تبرع وليس معاوضة “فنظام التأمينات الاجتماعية لا يدخل في عقود المعاوضات، فليست الدولة في مركز المعاوضة، الذي يطلب مقابلًا لما بذل… بل على العكس من ذلك، فالدولة تساهم مع العمال وأرباب الأعمال بجزء من المال العام؛ تحقيقًا لمقاصد التأمين، وهذا المال المدفوع منها أشبه بالتبرع المبذول منها بحكم ولايتها على عمالها وحرصها على مصالحهم”.
حكم عقد التأمين:
بناء على ما سبق من التمييز بين أنواع التأمين لا يصح إطلاق حكم واحد على جميع هذه الأنواع، بل يجب تناول كل نوع منها على حدة.
أولا: حكم التأمين التجاري:
اختلف العلماء المعاصرون في حكم التأمين التجاري:
فقال بعضهم بحله وجوازه، واختلفت مآخذهم لهذا الحكم، فمنهم من بنى حكمه على القياس والمشابهة بين التأمين وعقود من العقود التي أباحتها الشريعة، كالجعالة والمضاربة، ومنهم من استند إلى العرف كدليل من أدلة الأحكام، ومنهم من استند إلى المصلحة المرسلة، ومنهم من استند إلى الضرورة التي تبيح المحظور. وفيما يلي عرض لبعض هذه الأدلة.
1- الاستدلال بالعرف والمصلحة، فقد “استدل من رأى إباحة التأمين بالعرف استنادًا إلى أنه جرى به العرف العام للناس، وتعاملوا به، وقد دعت إليه مصلحة عامة ومصلحة شخصية”.
2- الاستدلال بوجوب الوفاء بالوعد ديانة وقضاء، فقد “استدل مبيحو التأمين بأن فيه التزامًا أقوى من التزام الوعد، والوعد يجب الوفاء به قضاء عند المالكية، فالتأمين جائز من باب أولى”.
3- الاستدلال بالضرورة: يقول الشيخ على الخفيف: “إن عقد التأمين أصبح اليوم ضرورة اجتماعية، يقرها العقل، ولا يخالف حكمًا من أحكام الشرع، فهو يكفل للمؤمن له مجابهة المخاطر التي ينوء بحملها…”.
4- الاستدلال بأن التأمين معاوضة بين بدلين غير ربويين، وذلك باعتبار أن البدل الأول الذي يدفعه المؤمن له عبارة عن مال يدفع أقساطًا، أما البدل الثاني الذي يقدمه المؤمن “شركة التامين” فهو عبارة عن منفعة تتمثل في دفع المصاب عن المؤمن، والمنفعة ليست من الأصناف الستة؛ فلا يقع الربا بنوعيه بينهما وبين المال المقدم من المستأمن؛ ومن ثم فليس حرامًا.
5- الاستدلال بالمشابهة بين التأمين والمضاربة: يقول الشيخ عبد الوهاب خلاف: “إن أقرب العقود التي تندرج فيها هذه العملية عقد المضاربة، وهو عقد صحيح نافع للعامل ورب المال، ليس فيه ضرر بأحد، ولا أكل لمال أحد بدون حق، وعليه فالتأمين على الحياة مضاربة فيها ادخار وتعاون وتوفير لمصلحة المشترك حين تتقدم سنه، ولمصلحة وريثه حين تفاجئه منيته، والشريعة إنما تحرم الضار، أو ما كان ضرره أكبر من نفعه”.
6- الاستدلال بالمشابهة بين التأمين والجعالة، فقد خرج بعض الباحثين التأمين على الجعالة وهي “التزام عوض معلوم على عمل معين معلوم أو مجهول”.
وقال أكثر العلماء المعاصرين بتحريم التأمين التجاري، واستندوا في قولهم بالتحريم على الآتي:
1- أن عقد التأمين يشتمل على الغرر الفاحش، والغرر محرم بنصوص الأحاديث. يقول الدكتور محمد حسين الترتورى في بيانه لحكم التأمين الصحي التجاري:
“والتأمين الصحي التجاري عقد معاوضة يشتمل على غرر فاحش، وبيان ذلك أن كلًا من المؤمن له والمؤمن يجهلان عند العقد هل ستدفع كل الأقسام أم أنه سيدفع بعضها؛ لاحتمال موت المؤمن له بعد دفع بعض الأقساط، كما أن المؤمن يجهل: هل سيدفع للمؤمن له شيئًا لأن الدفع معلق بمجهول وهو المرض”.
ويقول الدكتور عبد الله مبروك النجار “وبالنسبة للمؤمن فإن مقدار ما يحصل عليه من عوض فيه غرر فاحش كثير، لأنه قد يحصل على قسط واحد ثم تقع الكارثة، وقد يحصل على عشرة أقساط ثم تقع الكارثة، وقد يحصل على الإقساط كلها ولا تقع الكارثة في مدة التأمين فلا يخسر شيئًا، وواضح من التفاوت في مقدار ما تحصل عليه شركة التأمين من عوض تبعًا لوجود هذه الاحتمالات كثير لا يقاس البتة بالتفاوت التافه في القيمة”.
ومن الملاحظ أن الغرر في عقد التأمين كثير وفاحش لأنه “يستغرق المحل كله دون أن يقتصر على قدر يسير منه، وليس أدل على ذلك من أن أهم أنواع التأمين يستغرق العوض كله من ناحية الحصول أو عدم حصوله” كما يلاحظ أن هذا الغرر ليس تابعًا وإنما “يتعلق بأصل العوض وبقدره وأجله، وهذه كلها أمور تتجه إليها الإرادة قصدًا”.
والغرر إذا كان في عقد معاوضة، وكان كثيرًا فاحشًا، ومقصودًا غير تابع فإنه يبطل العقد، وهو الذى تتنزل عليه النصوص الكثيرة الناهية عن الغرر في المعاوضات.
2- اشتمال عقد التأمين – في أغلب أحواله – على الربا بنوعيه، فإذا كانت الأقساط التي يدفعها المؤمن له مساوية لقيمة ما يحصل عليه من المؤمن كان هذا ربا النسيئة؛ لأن المؤمن له دفع مبلغًا في عقد معاوضة وأخذ عوضًا عنه من جنسه بعد زمن، وهذا هو ربا النسيئة الذى حرمه النبي – صلى الله عليه وسلم – في أحاديث كثيرة منها قوله “الذهب بالذهب ربا إلا هاء وهاء” والقول بأن المبادلة واقعة بين مال ومنفعة قول غير سائغ ولا مقبول “فالحق أن محل العقد ليس الأقساط المدفوعة من المستأمن والمنفعة، وإنما هو يتمثل في الأقساط والتعويض المادي، أي استحقاقات التأمين في حالة وقوع الخطر، فهي في الواقع مبادلة مال بمال”. ومن المعلوم أن العملة الورقية من الأجناس الربوية بالقياس على الذهب والفضة بجامع الثمنية.
أما إذا كانت الأقساط التي يدفعها المؤمن له أقل مما يحصل عليه من المؤمن فإن هذا يجتمع فيه ربا الفضل والنسيئة، والأحاديث في النهي عنهما كثيرة منها قول النبي – صلى الله عليه وسلم – “الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح يدًا بيد مثلا بمثل سواءً بسواء…”.
3- أن عقد التأمين يعلق الملك على الخطر فهو -إذًا- عقد قمار وميسر؛ لأن القمار “عقد بين طرفين يلتزم كل طرف للآخر مالًا معلقًا على شرط فيكون أحد الطرفين غارمًا والآخر غانمًا”.
والراجح من هذين القولين هو القول بتحريم التأمين التجاري؛ للآتي:
1- أن الغرر فيه كثير وليس يسيرًا، ومقصود وليس تابعًا، ومثل هذا الغرر لا شك في تحريمه وبطلانه. ومن زعم بأنه لا يؤدى إلى نزاع لشيوع التعامل به فزعمه مردود؛ لأن هذا الزعم خلاف الواقع “والدليل على ذلك ما تغص به ساحات المحاكم من قضايا تتعلق بمنازعات في عقود التأمين”، ولأن “بيوع الغرر المجمع على تحريمها قد كثر تعامل أهل الجاهلية بها”.
2- أن خصائص عقدي القمار والمراهنة توجد في عقود التأمين، وبيان ذلك أن كلًا من المقامرين أو المتراهنين يلتزم نحو الآخر بدفع المبلغ المتفق عليه إذا وقعت الحادثة، فتقع على أحدهما خسارة المقامرة أو الرهان، وهذا هو حال عقد التأمين؛ فإن شركة التأمين تتعهد بدفع مبلغ التأمين إذا وقعت الحادثة المبينة في العقد، وهو وقوع الخطر المؤمن منه في مقابل تعهد المستأمن بدفع أقساط التأمين مدة عدم هذه الحادثة” فأحدهما غانم والآخر غارم.
3- أنه لا مفر من اشتمال عقد التأمين -في أغلب أحواله- على ربا النسيئة أو ربا الفضل والنسيئة معًا، وقد اجتمعت كلمة المجامع العلمية والمؤسسات الدينية على أن العملة الورقية تعتبر من الأجناس الربوية، وأن علتها هي الثمنية.
4- أن الأدلة التي استدل بها المبيحون للتأمين التجاري أدلة متهافتة لا تثبت للمناقشة.
فأما استدلالهم بالمصلحة فهو مردود لأن “عقود التأمين التجاري فيها جهالة وغرر وقمار وربا فكانت مما شهدت الشريعة بإلغائه لغلبة جانب المفسدة فيه على جانب المصلحة”.
وأما الاستدلال بالعرف فلا يستقيم؛ لأن العرف لا ينشئ الحكم الشرعي، خاصة إذا خالف النصوص والقواعد المقررة في الشرع، وإنما وظيفة العرف في تطبيق الأحكام على الواقع، وفهم المراد من عبارات النصوص وأقوال الناس.
وأما قياس التأمين على المضاربة فلا يصح لأن “رأس المال في المضاربة لا يخرج عن ملك صاحبه، وما يدفعه المستأمن يخرج بعقد التأمين من ملكه إلى ملك الشركة حسبما يقضى به عقد التأمين” فهذا قياس مع الفارق.
وأما تخريج عقد التأمين على الجعالة فلا يصح أيضًا للفروق الجوهرية بين التأمين والجعالة فالتأمين عقد لازم والجعالة عقد جائز، وشركة التأمين تستحق الأقساط وإن لم يقع الحادث أما الجعل فلا يستحق إلا بإنجاز العمل.
وأما قياس عقد التأمين على الوعد الملزم عند من يقول به فلا يصح “لأنه قياس مع الفارق، ومن الفروق أن الوعد بقرض أو إعارة أو تحمل خسارة مثلًا من باب المعروف المحض فكان الوفاء به واجبًا أو من مكارم الأخلاق، بخلاف عقود التأمين فإنها معاوضة تجارية باعثها الربح المادي”.
وهذا الحكم الذي رجحناه نص عليه مجمع الفقه الإسلامي لمنظمة المؤتمر الإسلامي في دورته الثانية بجده، فقد أصدر قراره رقم (2) بشأن التأمين وإعادة التأمين، وجاء فيه:
“أن عقد التأمين التجاري ذا القسط الثابت الذي تتعامل به شركات التأمين التجاري عقد فيه غرر كبير مفسد للعقد ولذا فهو حرام شرعًا…”.
ثانيا: حكم التأمين التعاوني والاجتماعي:
سبق أن تعرضنا لنوع من أنواع التأمين، وهو التأمين التجاري وبينا أن هذا النوع محرم لما فيه من الغرر والربا والقمار، والآن نتعرض للحكم على نوعين آخرين من التأمين وهما: التأمين التعاوني، والتأمين الاجتماعي.
والصفة التي تجمع بين هذين النوعين، وتفصلهما عن النوع السابق -وهو التأمين التجاري- هي أنهما ليسا من المعاوضات، وإنما هما من عقود التبرعات التي يقصد بها الإرفاق والإحسان والتعاون على البر والتقوى.
هذا هو الفارق الجوهري الذي يميز بين هذين النوعين من التأمين وبين التأمين التجاري؛ فالتأمين التجاري من عقود المعاوضات وهي عقود يحرم فيها الغرر والجهالة إلا ما كان يسيرًا غير فاحش أو تابعًا غير مقصود أودعت إليه ضرورة معتبره شرعًا، أما عقود التبرعات فيغتفر فيها الغرر والجهالة، كما تنص قاعدة: “يغتفر في التبرعات من الجهالة والغرر ما لا يغتفر في المعاوضات”.
وواضح من طبيعة هذين النوعين من التأمين أنه لا يقصد بهما المعاوضة، وإنما هو الإرفاق والتعاون، وما دام العقد من نوع التبرع والإحسان والإرفاق فلا يضره ما شابه من جهالة أو غرر؛ إذ “ليس بشرط في جواز التبرع أن يعرف المتبرع ابتداء مقدار ما يتبرع به على وجه التحديد، وهو معنى قول الفقهاء: إن الغرر والجهالة يغتفران في التبرعات؛ تشجيعًا على فعل الخير من جهة، ولعدم تغرر المتبرع إليه من جهة أخرى؛ لأنه لم يبذل عوضا في مقابل هذا التبرع” وليس بشرط -من باب أولى- أن يعرف المتبرع له مقدار ما سيحصل عليه ولا وقته ولا أن يستيقن حصوله؛ حيث لا تؤثر الجهالة ولا الغرر في التبرعات.
ولا يضر بذلك كون المتبرع له حق الحصول على جزء من التبرع لجماعة وصفت بصفة معينة؛ فإنه يدخل في الاستحقاق مع هذه الجماعة إذا توافرت فيه هذه الصفة، كمن يتبرع لطلاب العلم فإنه يستحق قضاءً من هذا التبرع إذا طلب العلم”.
ومما يدعم القول بجواز التأمين التعاوني أن التعاون على البر والتقوى والتفريج الكربات وحمل الضعفاء مما حث عليه الكثاب والسنة، يقول الله تعالى: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾ [المائدة: 2] وعن النعمان بن بشير أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “مثل المؤمن في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد..”.
وعن أبى هريرة أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة….”.
وعن أبى سعيد مرفوعًا “من كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له…” فهذا الأحاديث وغيرها تدل على أن قيام المجتمع المسلم بالتكافل والتعاون وتبادل الإحسان داخل في مقاصد الشريعة.
والحكم على التأمين التعاوني بالجواز هو الذي تبنته المجامع الفقهية، فقد جاء في نص قرار المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي ما يلي:
“… كما قرر المجلس بالإجماع الموافقة على قرار مجلس هيئة كبار العلماء في الملكة العربية السعودية، رقم (51) بتاريخ 4/4/1397هـ من جواز التأمين التعاوني بدلًا من التأمين التجاري المحرم المنوه عنه آنفًا.
وما قيل هنا يقال أيضًا عن التأمين الاجتماعي؛ لأن “نظام التأمينات الاجتماعية لا يدخل في عقود المعاوضات، فليست الدولة في مركز المعاوض الذي يطلب مقابلًا لما بذل، ويسعى في تحديد هذا المقابل إلى طلب الربح الذى يتمثل في زيادة ما يأخذ على ما يعطى، بل على العكس من ذلك، فالدولة تساهم مع العمال وأرباب الأعمال بجزء من المال العام؛ تحقيقًا لمقاصد التأمين، وهذا المال المدفوع منها أشبه بالتبرع المبذول منها بحكم ولايتها على عمالها وحرصها على مصالحهم”.
ومما يدعم القول بجواز التأمين الاجتماعي أنه مبني على أصلين:
الأول: التعاون على البر والتقوى، والتكافل بين المؤمنين تجاه المخاطر، وهذا الأصل سبق أن بينا حث الشريعة عليه.
الثاني: مسئولية الدولة عن رعاية رعاياها والحرص على مستقبل مواطنيها، والعمل على تأمين عمالها وموظفيها، وهذا الأصل أيضًا قد حثت عليه الشريعة، فمن النصوص التي ترعى هذا الأصل ما رواه ابن عمر عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال “كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته….”وعن عوف بن مالك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – كان إذا أتاه الفيء قسمه في يومه فأعطى الآهل حظين وأعطى العزب حظًا…” وعنه إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال “من ولى لنا عملًا وليس له منزل فليتخذ له منزلًا، أو ليس له زوجة فليتخذ له زوجة…….”.
يقول الإمام ابن حزم: “وفرض على الأغنياء من كل بلد أن يقوموا بفقرائهم، ويجبرهم السلطان على ذلك إن لم تقم الزكوات بهم …، فيقام لهم بما يأكلون من القوت الذي لا بد منه، ومن اللباس للشتاء والصيف بمثل ذلك، وبمسكن يكنهم من المطر والصيف والشمس وعيون المارة، وأخيرا فإن “هذا النوع من التأمين ينسجم مع مقاصد الشريعة التي تدعو إلى التكافل الاجتماعي على أساس التبرع، فكل من الدولة وأصحاب الأعمال لا يقصدون من هذا التأمين تحقيق الأرباح، وإنما يقصدون ترميم المصائب التي تنزل بالموظفين والعمال”.