ردد الكثير من السياسيين والكتاب مصلح (تجديد الخطاب الديني)، وهذا المصلح لدى هؤلاء الناس كلمة حق أريد بها باطل، إذ يريدون من تجديد الخطاب الديني مضمون الخطاب ومحتواه لا هيكله، ويريدون التخفف من تكاليف الشرع المطهر تحت هذا العنوان البرّاق الجذّاب، ويريدون أن يأخذوا بالشاذ من الأقوال المنسوبة إلى العلماء، وبالضعيف من المفهوم والاستنباطات، ويجعلوها هي المعتمد لا لشيء إلا لأنها توافق أهواءهم.
والذي نريده ونرمي إليه هو تجديد الخطاب الدعوي، وهو تجديد لا يفرغ النص من مدلوله ومحتواه، ولا يلوي أعناق النصوص لتوافق الأهواء والمزاعم، ولا يتخذ التأويل ذريعة لتحريف النصوص وتمييع الأحكام، فالتجديد في الأسلوب ومنهجية العرض، لا في صلب الدين ومحتواه، ولا حتى في مصطلحاته، فلا تجديد في الأحكام والمفاهيم الواردة في الكتاب والسنة، فالمسلم مسلم، والكافر كافر، والمنافق منافق، وأركان الإسلام ثابتة، وأركان الإيمان ثابتة، وأمور العقيدة هي هي، وإنما التجديد في وسيلة الطرح وأسلوب الطرح، ومراعاة أحوال المتلقين مكانًا وزمانًا.
إن تجديد الخطاب الدعويّ ضرورة دعوية، لأن الدعوة إلى الله تعالى واجبة، وواجب على كل من دعا إلى الله أن يحسن في دعوته، ﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 105] والإحسان في الدعوة لا يمكن أن يتحقق في ظل الأنماط والأساليب التي ابتلي بها الخطاب الدعوي المعاصر، فلا بد إذًا من التطوير والتجديد في هذا الخطاب؛ لتتحقق الجودة، ويتجلى الإحسان.
مشكلات الخطاب الدعوي وعلاجها:
ولكي نصل إلى ما نصبو إليه من التجديد لا بد من استجلاء أخطاء الخطاب الدعوي لحالي، وتصويبها، ومن أهم هذه الأخطاء ما يلي:
1- النقل من كتب أهل العلم دون مراعاة حال المخاطبين:
فكثير من الخطباء والوعاظ والدعاة في الدروس وخطب الجمعة ينقلون من كتب أهل العلم دون أن يراعوا حال المخاطبين، فيقع التنافر الشديد بين الطرح وبين عقلية المتلقي، فمما لا شك فيه أن الثقافة العقلانية المعاصرة لها تأثير كبير على عقول كثير من الناس في هذا الزمان، تجعلهم ينفرون بشدة مما يتنافى مع معطيات الثقافة المعاصرة، وهذا لا يتطلب منا إخفاء الحقائق السمعية أو التنكر لما قد يتنافى مع مفاهيم بعض الناس من حقائق الدين، وإنما يتطلب منا ألا نستغرق مع العلماء السابقين فيما استغرقوا فيه من تفسير للنصوص التي أخبرتنا بالغيوب والسمعيات، خاصة إذا كان كثير من تفسيراتهم معتمد على روايات ضعيفة وإسرائيليات، ومصدر الخلل عند كثير من المسلمين هو وجود خلط بين ما هو مقدس وشرعي ومتفق عليه وبين ما هو محاولة بشرية اجتهادية قد تكون خطأ وقد تكون صوابا، ومن هنا قد يقع البعض لإخضاع النص للفعل البشري فيقع العدوان على النص من قبل غير الفاقهين أو أن يرفعوا الفعل البشري الذي هو اجتهاد فقيه أو عالم إلى منزلة النص فيصبح بمنزلة الذي لا يسأل عما يفعل ولا يستدرك عليه ولا يراجع أو يصوب.
إذن هناك فرق بين النص الشرعي والفعل البشري فالنصوص الشرعية ثابتة لا مجال للخوض فيها والأفعال البشرية التي هي اجتهادات مجموعة من العلماء متغيرة تبعا لتغيرات الزمان والمكان.
وفي كثير من الأحيان ترى بعض الدعاة والخطباء يتقمصون شخصية أحد العلماء القدامى, فإذا تكلم أحدهم في موضوع ما فلابد أن يأتي بكل الروايات التي تتعلق بهذا الموضوع، سواء كانت صحيحة أم ضعيفة، وربما تكون موضوعة، إما تقليدًا محضًا أو إظهارًا لغزارة العلم وسعته وأنه يحفظ كل هذه الروايات!!
إن كثيرًا من التفاسير وكتب التاريخ التي تحمل الكثير من الخير والحق والصدق تغص بكثير من الروايات الضعيفة والحكايات السقيمة والأخبار الغريبة والأحوال العجيبة، من مثل ما يقوله أحد رواة التفسير القدماء أن (ق) هو جبل يحيط بالأرض، وما يرويه بعضهم في قصة بدء الخليقة، وغير ذلك مما لا يمكن أن يصدقه عقل.
إن الداعية العاقل يميز الصحيح من السقيم، وينقي كلامه من الروايات الهزيلة التي يلون بها البعض كلامهم؛ فيخرج كلامهم كثير الألوان ولكن دون أن يكون بين هذه الألوان الكثيرة انسجام أو توافق، فتبدو نشاذًا مستهجنًا عند أكثر الفاهمين المتذوقين.
بل إن الداعية الواعي الحكيم يتوجب عليه أحيانًا أن يكتم بعض ما يعلم أو يسكت عن بعض ما قرأه أو سمعه، ولا يسارع إلى تبليغه وإذاعته؛ لعلمه أن الوقت أو الظرف لا يناسب، أو أن المخاطب لا يرقى إلى فهم ما يطرح، وفي هذا الصدد قال الإمام البخاري في صحيحه في كتاب العلم: باب من خص بالعلم قوما دون قوم كـراهية أن لا يفهموا، وقال على حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله، وروى مسلم عن ابن مسعود: ما أنت محدثًا قومًا حديثًا لما تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة.
ويذهب ابن القيم إلى أبعد من ذلك فيقول:
“من أفتي الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب واحد من كتب الطب”.
2- اعتماد الخطاب الدعوي المجرد، دون الربط بواقع المجتمع، ودون التعرض لمشكلاته ومتطلباته، مما جعل تلقي الناس له مقطوعًا عن الاستجابة والعمل، وجعل خطبة الجمعة واحة للاسترواح والاستجمام النفسي على أحسن تقدير، إن المجتمع لا يمكن أن يتفاعل مع خطبة الجمعة أو غيرها من ألوان الخطاب الدعوي حتى يشعر فيها بالطابع العملي التفاعلي، وحتى ترتبط بهمومه وطموحاته، وحتى يكون فيها العلاج لمشكلاته وأزماته، أما أن تظل المواعظ المجردة محلقة في سماء الدعوة فهذا يعني أنها ستظل في عليائها محلقة مرفرفة دون أن تحرك الواقع أو تؤثر فيه.
3- سيطرة المذهبية الفكرية والفقهية على عقلية الداعية، واحتباسه في تعاليمها، وعدم قدرته على الخروج عن إطارها، مما يعطي خطابه صبغة حزبية، تضطر المخاطب إلى التبكير باتخاذ موقف نفسي من طرحه، وتقلل من قناعة الجمهور بما يقول، الأمر الذي يؤدي حتمًا إلى تخلف الاستجابة.
ونحن لا نمنع الانتماء إلى أي حزب أو جماعة أو طائفة، ما دام في الجملة على منهج أهل السنة، ولا نرى غضاضة من العمل تحت أي لواء من هذه الألوية، بل نرى أن واجب التمكين للدين لا يتم إلا بعمل جماعي منظم، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالعمل ضمن أطر دعوية ضرورة دعوية، بشرط عدم التعصب، وعدم نبذ الآخر، أما الذي نحذر منه فهو أن يتحول خطاب الداعية في البلاغ العام بدعوة الإسلام، وفي الخطب والدروس العامة إلى بوق لحزبه؛ لأن هذا المسلك يضيق على المخاطبين بالدعوة ما وسعه الدين عليهم، فتنفر منه فطرهم، وتأباه طباعهم، ومن ثم لا يتأثرون به، بل ربما يكون لديهم موضع تهمة.
4- الاختلاف الكثير بين الدعاة في كثير من القضايا والأحكام بشكل يثير الاضطراب والارتباك لدى الجمهور؛ مما يؤدي إلى ما يشبه الفوضى الفكرية والفقهية، وهذا بلا شك يؤدي إلى نتائج سيئة، تبدأ من تأخر القناعات، وتنتهي بتخلف الاستجابة.
وإذا كان الخلاف في جانب من جوانبه أمرًا مقدرًا لا مفر منه؛ لكون العقول تختلف في طرائق التفكير، ولكون النصوص حمالة ذات وجوه، فإننا نستطيع أن نضيق من دائرته، ونخفف من حدته، ونجعله مقصورًا على الفروع دون الأصول، ونضطره إلى أن يكون محصورًا في دهاليز البحث العلمي وأروقة الدراسات الأكاديمية، ونحفه بكوكبة من آداب الاختلاف، ونجتهد في التماس الحق والتجرد له بقطع النظر عن هوية قائله، وهذا يستلزم إخلاصًا شديدًا وتجردًا فريدً.
أما أن نفرح بالخلاف أو نفتعله، ثم نصوغه في مساجلات ومناظرات، ثم نذريه في سماء الدعوة وفضاء الإعلام؛ فهذا هو الخطر الأسود الذي يرتدي ثيابًا بيضًا.
صحيح أن الداعية قد يضطر إلى الرد والدفع، وذلك إذا ما كان هناك من يعبث بحقائق الدين عبثًا لا يصح السكوت عليه، ولكن ليكن هذا بقدر الضرورة، ولا يكونن ذريعة لتلبية داعي الهوى في النقد والتجريح والتهجم على الناس.
5- التركيز على قضايا غير معاصرة، مما قد سبقت معالجتها في الماضي، وترك وتجاهل القضايا المعاصرة، وهو لون من ألوان الهروب من المواجهة، وصورة من صور النقل من كتب العلماء دون تمييز بين ما نحن بحاجة إليه وما لسنا بحاجة إليه، ولا يفعل هذا إلا من لا يتحمل المسئولية الدعوية، ومن يعيش الماضي ولا يكترث بالحاضر، ومن يضيع رسالة المنبر في كلام غير مفيد يبدو وكأنه مفيدًا.
إن السابقين يوم أن بالغوا في الاهتمام بمسائل الصفات وبالرد على الأشاعرة ومن شابههم، كانت تلك المسائل يومها تمثل فتنة عصرهم وقضاياه الساخنة، ونحن أيضًا لدينا قضايا معاصرة تحتاج منا أن نتصدى لها ونعالجها بنفس الاهتمام الذي عالج به السابقون قضاياهم، مثل قضايا تطبيق الشريعة، والدفاع عن المسلمين المستضعفين، وتحرير الإنسان من الآلهة الجديدة التي استعبدته دهرًا طويلًا.
ولا يعني هذا ترك القضايا القديمة تركًا كليًا، وإنما المقصود هو ألا تأسرنا وتستولي على اهتمامنا على حساب قضايا أكثر منها خطورة.
6- الغفلة عن طريقة القرآن الكريم في مخاطبة الخلق:
كثير من الدعاة يبني وعظه وإرشادة على طريقة واحدة كالترهيب والترغيب، ويغفل عن طريقة القرآن التي تتسم بالشمولية والعمق، فالقرآن هو كتاب الله الذي نزل لإسعاد البشرية وهدايتها، وهو خطاب من خلق الإنسان ويعلم أسراره وأحواله وما ينفعه وما يضره، ويعلم مداخل نفسه ومساربها، فلا شك أن طريقته في خطاب الناس ودعوتهم أسلم طريقة وأقربها لفطرة هذا الإنسان.
فينبغي على الداعية أن يسترشد بطريقة القرآن، في مخاطبته للفطرة، وفي ربط الإنسان بالكون وما فيه من آيات، وفي طريقته في الإقناع، وفي جمعه بين مخاطبة العقل ومخاطبة المشاعر، وفي بنائه على قاعدة الربوبية المتمثلة في الخلق والرزق والإنعام، وغير ذلك مما تميز به الأسلوب القرآني.
7- قصر الخطاب الدعوى في كثير من الأحيان على الشباب المستقيم القريب من الدعاة والمتعاطف مع الإسلام بطبعه، وإغفال البقية ممن هم أحوج إلى ذلك الخطاب. ولذا يلاحظ أن الأسلوب المتبع لا يتغير، لأن الفئة المستفيدة منه واحدة، وقد تصل رسالة خاطئة للدعاة من خلال ما يرونه من الحماس لدى من يستمعون إليهم، فيستمرون في نفس الاتجاه بنفس الأساليب والوسائل لظنهم أن الدعوة تؤتي أكلها بسبب ذلك الاستحسان الملاحظ على وجوه المخاطبين، أو المسموع ثناءً من بعضهم. والنتيجة جهود مهدرة، وشحن زائد دون منهج علمي يراعي التكامل والشمول في محتوى الخطاب الدعوى، وكذلك تداول محدود للمعرفة والدعوة إلى الخير، وغياب الجزء الأكبر عن مواطن الإصلاح وسُبُل الهداية.
8- عدم وضوح الرؤية لدى الداعية:
فمن الملاحظ أن الخطاب الدعوى عند كثير من المتحمسين للدعوة خطابٌ لا يمكن توقع أو حساب طريقه أو مسلكه، فهو خطاب مضطرب، مرَّة يبشر ويتفاءل بشدة، وفجأة ينفِّر ويسخط ويتشاءم، مرَّة يتحمس ويقوى، وأخرى يضعف ويحبط وينهزم!! ومرات كثيرة يحتار بماذا ينطق؟.
إن مرد ذلك كله إلى عدم وضوح المنهج، ذلك المنهج النبوي المنضبط، الذي يجعل أصحابه غير محتارين لأنهم لم يفاجئوا بالأحداث، ويعرفون طبيعة طريق.
9- فقدان أو ضعف القدرات والمهارات الخطابية، كالقدرة على الإقناع، والقدرة على جذب الانتباه، والقدرة على التأثير وإثارة المشاعر، ومهارة تصريف القول بين وعظ وإقناع وسرد وتقرير وغير ذلك.
وعلاج هذه المشكلة يكون بدراسة بعض كتب التربية وطرق التدريس وفن الخطابة، مع الاستماع الكثير إلى أرباب هذا الفن، دون تقمص لشخصياتهم.
10- عدم الاهتمام بتحضير الخطبة أو الدرس، وهذا مرده إلى ضعف الهمة، وضعف الإحساس بالمسؤولية، وعلاج هذه المشكلة أن يعلم الداعية أن عمله جهاد، وأن المجاهد إن لم يتدرب ويتجهز فسيخسر المعركة مهما كانت ملكاته وقدراته.
وسنتوقف في المقال القادم – بإذن الله – مع أسس الارتقاء بالخطاب الدعوي، والعوامل المؤثرة فيه.