قد يظن البعض أن الدعوة الفردية مع شخص معيَّنٍ سهلةٌ، ولا تستغرق زمنًا طويلاً، ولا يَلزمها جُهدٌ كبير، وهذا تصوُّرٌ سطحي.
نعم، قد يحدث هذا، بل حدث كثيرًا، ولكن ليست قاعدة مُطَّرِدة، ولا أصلاً ثابتًا، بل إن الأصل – وخصوصًا في هذا الزمان – أن الدعوة الفردية يَلزمها وقت طويل، وجُهد كبير، ولا بدَّ من مراحلَ يَسلكها الداعية مع مَن يدعوه.
وهذه المراحل متدرِّجة ومرتَّبة، كل مرحلة منها لها خصائصها وما يُميِّزها، والأفضل أن تسلك هذه المراحل، أما الزمن الذي يُستغرَق في كل مرحلة، فليس بمُنضبط؛ وإنما يخضع للظروف والقدرات والمؤهلات.
وهاكم المراحل:
1- مرحلة التعارف وإنشاء العلاقات:
بعد أن يراقب الداعية الشخص الذي يريد أن يدعوه مدة، ويتبيَّن له أنه مناسب، وأن دعوته لا تُزاحم دعوة مَن هو أقرب منه، ومَن تتوافر فيه عوامل نجاحٍ أكثر، يبدأ في إنشاء علاقة وصداقة معه، ويسعى ويجتهد في أن تكون هذه العلاقة طيِّبة ووطيدة، ولا بد أن يرى المدعو خلال هذه المدة من الداعية، ما يدعو إلى استمرار العلاقة والصداقة.
وينبغي للداعية ألا يتعجَّل بالكلام والتوجه في هذه المرحلة، وأن يكون فيها مستمعًا لا متكلمًا؛ حتى يتسنَّى له فَهْم جوانب شخصية المدعو، ومداخل نفسيَّته.
والأفضل للداعية أن يغضَّ الطرف عن سقطات الشخص الذي يدعوه في هذه المرحلة، إلا إذا كانت مما لا يَحسُن السكوت عنه، فإنه عندئذٍ يُنكر بلُطف وإيجاز.
والداعية الماهر هو الذي يستطيع أن يُنشئ هذه العلاقة دون أن يشعر المدعو بقصْده – قدر الطاقة – وعلى قدر ما تكون العلاقة تلقائية، ولها سببٌ واقعي موجود أصلاً، أو مُخترَع بمهارة، على قدر ما يتفتَّح لها قلب المدعو، ولا يجد فيها حرَجًا.
وقد ينتاب المدعوَّ في هذه المرحلة بعضُ المشاعر؛ مثل: التوجُّس، والحذَر؛ فينبغي أن يكون في الداعية ما يُطَمْئِن، ويَبعث على الهدوء ما أمكن.
2- مرحلة إيقاظ الفطرة وتحريك الإيمان الكامن في النفس:
وذلك يكون بالتذكير بقدرة الله، وبديع صُنعه، وعظيم إنعامه، وربوبيَّته على عباده، ويكون بالترغيب والترهيب، وكثرة الحديث عن مصير الإنسان ومآله، وعن اليوم الآخر والبعث، والحساب والجزاء، والجنة والنار.
وفي هذه المرحلة يدفع الشخص إلى الالتزام بشعائر الإسلام؛ كالصلاة، وحضور الجماعة في المسجد، وبر الوالدين، وصلة الأرحام… إلخ.
كما يقوم الداعية في هذه المرحلة بنهي صاحبه عن الذنوب والمعاصي المعروفة الظاهرة عليه، وأن يَلتزم في ذلك بفقه الأولويَّات عند التزاحُم، وعليه كذلك أن ينظر إلى ما يحتاجه المدعو في هذه المرحلة من قضايا التوحيد والإيمان التي تَصِح بها عقيدته، فيُعلِّمه إياها.
ويمكن أن يستعين في هذه المرحلة بالرسائل الصغيرة التي تتميَّز بالسهولة والشمول، وحلاوة العبارة وقوة التأثير؛ مثل: (الكَلِم الطيِّب – تزكية النفوس – جلسة على الرصيف – أُريد أن أتوب ولكن… إلخ).
وكذلك الأشرطة التي تركِّز على الترغيب والترهيب، والتذكير بالآخرة.
وليَحذر الداعية في هذه المرحلة أن يُحدِّثه عن الدعوة والدعاة، وقضايا الأُمة الكبيرة، أو أن يستعجلَ عليه باصطحابه إلى الدروس العامة أو اللقاءات.
أما المشاكل التي قد تَعرض له في هذه المرحلة، فمنها:
1- منازعة صُحبة الشر وقُرناء السوء للداعية فيمَن يدعوه.
2- الفتور والتثاقل.
3- القلق من جهة الأهل بسبب تردُّد الداعية عليهم.
فليكن الداعية على دِراية بهذه المشكلات المتوقعة؛ ليَعد لمواجهتها، ومساعدة المدعو على التغلُّب عليها.
3- مرحلة الدفع نحو الالتزام الكامل:
وذلك بالحث على تقوى الله في كلِّ ما أمَر ونهى، وتحقيق العبودية لله – عز وجل – بمعناها الشامل العميق.
ويمكن للداعية في هذه المدة أن يَخرج به من نطاق العلاقة الثنائية إلى نطاق أوسع، بتوسيع دائرة معارفه مع أهل الدعوة، واصطحابه إلى الدروس العامة، وخُطَب الدعاة، وغير ذلك، وينبغي بذْل كل المحاولات لعزْله عن رُفقاء السوء، وسَلْخه من مجتمع الرذيلة.
ويمكن للداعية في نهايات هذه المرحلة أن يَطرق بعض القضايا المهمة طرْقًا خفيفًا؛ تمهيدًا للمرحلة التالية، ويحاول أن يُلقي الضوء على مخالفات الواقع لشرع الله – عز وجل.
ومن المشاكل التي قد يتعرَّض لها الداعية في هذه المرحلة:
1- استمرار القلق من جهة الأسرة وتجدُّده.
2- ثقلة الأرض، التي تعوق الارتفاع والتحليق في آفاق الالتزام.
4- مرحلة الدفع لحمْل همِّ الإسلام والتهيئة لحمل راية الدعوة إلى الله:
يستمر الداعية في هذه المرحلة في تفهيم صاحبه الواقعَ الذي تعيشه الأمة، ومخالفة هذا الواقع لشرع الله، ويتوسَّع معه شيئًا فشيئًا، ويتدرَّج معه في عملية زرْع الاهتمام بأمر الإسلام في صدره، ثم يُفهمه أن الإسلام يتطلَّب منا البذل والتضحية في سبيله.
ويستعين الداعية في هذه المرحلة بالكتب والكتيِّبات، والمجلات والأشرطة والمحاضرات، التي تكشف الواقع وتُعرِّيه، وتبيِّن ما فيه من زَيفٍ وعَوار.
وكذلك يستعين بالخُطب والأشرطة الحماسية، وكُتب السِّيَر والمغازي، بغرض إلهاب حماسته، واستجاشة مشاعره، وينبغي للداعية أن يفتح لصاحبه قنوات العمل التي تُلائم قدراته، وتُواكب المرحلة التي يمرُّ بها، وتَنسجم مع معدل الشحن المعنوي الذي يَبثه فيه.
ومن الأعمال التي يمكن للمدعو أن يقوم بها في هذه المرحلة:
1- إصلاح بيته ودعوة إخوته، وأخواته وأقاربه إلى الالتزام بشعائر الإسلام وطاعة الله تعالى.
2- الالتزام بحضور دروس العلم، والجد والعزيمة في التعلُّم، والتفقُّه، والحفظ.
3- التأثير العام في مكان عمله؛ بإقامة صلاة الجماعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… إلخ.
أما عن المشاكل المصاحبة لهذه المرحلة، فمنها:
1- البُطء في فَهم بعض القضايا المهمة، والمتعلقة بالواقع المخالف لشرْع الله.
2- تفجير أسئلة وقضايا من قِبَل المدعو، يكون في الإجابة عنها نوعٌ من الاستعجال.
3- الإرجاف في الوسط الذي يعيش فيه الداعية.
5- مرحلة الربط بالدعاة والدفع للعمل الدعوي الرشيد الحكيم:
وفي بدايتها يرجح جانبُ الصقل والتربية وتعميق الفَهم، على الجانب الحركي، ثم يتواكبان بعد ذلك، وقد تظهر بعض المشاكل المتعلقة بالعمل الدعوي؛ مثل: شُبهة بدعيَّة العمل الجماعي، والتعصُّب، والولاء والبراء على أساس جماعة بعينها، وغير ذلك؛ فينبغي التفطُّن إلى ما يظهر على الساحة من هذه الأفكار، ووقاية المدعو منها.