يسر الإسلام حجة على الأنام (4)
في كثير من المواضع التي يفصِّل الحق تبارك وتعالى فيها الاحكام يذيل الآيات المشتملة على الأحكام والتكاليف الشرعية التي تفوح منها الروائح العطرة وتهب منها النسمات الندية الرطبة، فتملأ القلوب بالرضى والسكينة، وتغرس فيها الثقة والطمأنينة وتغمرها بالأنس والود الذي يسبغه الكريم المنان على عباده.
وهذه أمثلة:
• في سورة البقرة بعد أن بين الله تعالى حكم القصاص وأباح العدول عنه إلى الدية عند التسامح والتصافي عقَّب بأن هذه الأحكام تخفيف وتيسير وحرمة واسعة منه.
• وفي نفس السورة بعد تفصيل جانب من أحكام الصيام ورخصه يأتي هذا التعقيب الذي يشع نورا.
• وفي نفس السورة أيضًا يمتن الله تعالى على عباده المسلمين بأنه لم يُعَنِّتَهُم ولم يشأ أن يسبب لهم مشقة ولا عنتا، وذلك بعد بيان بعض الاحكام والرخص المتعلقة بالأيتام.
• وفي سورة النساء حديث طويل عن بعض أحكام الأسرة، والمحرمات من النساء، ونكاح الحرائر والإماء وغير ذلك.
• بعد هذا الحديث مباشرة يشير الحق تبارك وتعالى الى مقصوده الحكيم من هذه الأحكام العملية فيقول: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ [النساء: 26]، ثم يختم بقوله: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ ﴾ [النساء: 28].
• وفي سورة المائدة، وبعد تفصيل لجملة من أحكام الوضوء والاغتسال والتيمم، وبعد بيان لأهم أحكام الطهارة ورخصها يأتي هذا التذييل الذي يختم الآية بالمسك والعنبر: ﴿ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ﴾ [المائدة: 6].
• أما في سورة الحج فهنالك الإعلان عن حقيقتين كبيرتين متلازمتين، الأولى: أن الله اجتبى هذه الأمة واختارها واصطفاها لحمل الأمانة الإسلام وقيادة البشرية الى الله تعالى.
الثانية: أن الله لم يجعل لها في دينها أدنى حرج لتنطلق من العسر والآصار الى آفاق الدعوة والجهاد.
وتأتي هاتان الحقيقتان مقرونتين بفريضة من أعظم فرائض الإسلام – بل هي ذروة سنامه – ألا وهي فريضة الجهاد.
فبقوله تعالى: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[1].
هذه التذييلات العطرة وهذه التعقيبات الكريمة تكشف عن حقيقة مقصود الشراع من الأحكام والتشريعات، وأنه لم يرد بهذه الأحكام ان يشق على عباده، وإنما يريد ان يصلحهم ويسعدهم بها في الدارين ويدفع عنهم بها مفاسد الدارين. وأن هذه الشريعة بكل ما فيها من أحكام هي اليسر وهي التخفيف وهي الرحمة، ليس فيها آصار ولا أغلال ولا أثقال، بال البعد عنها والتحلل منها هو العنت وهو المشقة وهو عين الوقع في الآصار والأغلال.
فلا يخرج أحد من معين الشريعة إلا كان مصيره الظمأ المحرق. وكيف يكون في شريعة الله مشقة والله تعالى يخاطب نبيه بود وقرب ﴿ طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى ﴾ [2].
[1] الحج [78].
[2] طه [1-2].