من مظاهر يسر الشريعة .. انحصار المحرمات فيما فيه مضرة على العباد

في كثير من المواضع التي اشتملت على النهي والتحريم ترد اشارات قرآنية إلى مضار الشيء لامنهي عنه والمحكوم فيه بالتحريم. فمثلا، في صدد التمهيد لتحريم الخمر والميسر جد هذه الإشارة مجملة إلى غلبة المفسدة والمضرة فيهما على المنافع، قال تعالى ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾[1]. ثم جاء الحكم بالتحريم البات جاء مع هذا الحكم شيء من التفصيل وأهم مضار الخمر والميسر، فقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [2]. وعند النهي عن وطء الحائض يقرر الحق تبارك وتعال أن هذا الوطء الكريه اذى ومضرة ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾[3] وعند تحريم أكل لحم الخنزير يرد وصف مجمل يثبت الضرر المترتب على تناول هذا اللحم الخبيث﴿ قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [4].

هذه التعليلات المجملة تشير إلى منهج الشارع الحكيم في التحليل و التحريم، ذلك المنهج الرحيم الذي يتقرر في قول الله عز وجل:﴿ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ ﴾ [5]، فكل خبيث ضار محرم لخبثه وضرره، وكل طيب حلال لأن الأصل أنه مخلوق لخدمة الإنسان ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ﴾ [6] وعندما يستقيم الانسان على هذا المنهج الرباني المرتضى فيأتي الحلال ويبتعد عن الحرام يحيا في ظل هذا المنهج الصافي حياة طيبة زكية ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾[7].

أما عندما يحيد البشر عن المنهج الإلهي المعصوم فلن يعصمهم شيء من الدمار والفساد الذي يعم البر والبحر والسهل والوعر ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [8].

وقد ثبت بالاستقراء التام الذي تؤيده النصوص وبالتجربة المدعمة بحقائق العلم أن جميع ما حرمه الله عز وجل فيه أضرار ومفاسد دنيوية عاجلة الى جانب أضراره الأخروية الآجلة. وكل شيء محرم إما أن يكون ضرارا في ذاته وإما أنه يفضي الى محرم آخر فيه ضرر.

هذه الأضرار التي تنطوي عليها المحرمات قد تكون خاصة وقد تكون عامة لا تتعدى صاحبها مثل وطء الحائض، وقد تكون عامة تتعدى الى قطاع من المجتمع مثل اسرقة والحرابة وغير ذلك من الآثام التي تلحق الأضرار بالمجتمع.

وهذه الأضرار منها الجسمية ومنها النفسية ومنها العقلية ومها العاطفية ومنها الخلقية ومنها الاجتماعية ومنها الاقتصادية فمن المحرمات التي تنطوي على أضرار جسيمة أكل الميتة والدم والخنزير ومن المحرمكات التي تسبب اضرارا نفسية النجوى بالشر والسوء، لأنها بتعث الحزن في قلوب من يظنون ان النجوى منصرفة إليهم ﴿ إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [9].

ومن المحرمات ما له بالغ الضرر على لاعقل وأسلوبه وإنتاجه كالتفكر في ذات الله أو الاغراق في البحث في القدر أو محاولة تكييف الغيبيات أو غير ذلك من الأمور التي هي في الحقيقة فوق إدارك البشر، لأنها تصيب العقل بالخيبل والشلل وتصيب منهجه بالاضطراب والخلل.

ومن المحرمات ما يلحق الأضرار بالبناء العاطفي والشعوري والنفسي للإنسان كالغناء الذي يسكر النفس ويذلهلها عن الجد ويصوغ العواطف والمشاعر صياغة لا تستقيم مع إيقاع العبودية في خطوات النفس الإنسانية.

ومن المحرمات ما له بالغ الأثر في هدم بنيان المجتمع مثل القبائح الستة التي نهت عنها الآيتان من سورة الحجرات وهي السخرية واللمز (العيب) والتنابز بالألقاب المكروهة والظن السيء والتجسس والغيبة. فهذه المحرمات وغيرها تؤدي الى تمزيق الروابط وفض الأواصر بين أفراج المجتمع.

وهناك محرمات لها أضرار اقتصادية كالإسراف والرشوة وتطفيف الكيل والغلول من الغنيمة وغير ذلك.

وكثير من المحرمات تنعكس بالضرر على الأخلاق التي هي قوام المجتمعات كالغضب الذي يفضي الى سوء التصرف، والكذب الذي يفتح باب الفسوق على مصراعيه.

وأكثر المحرمات بنوع واحد من الأضرار، فالخمر مثلا لها أضرار جسيمة لا تجهل ولها أضرار على صحة وسلامة العقل الذي تخمره وتغشاهولها أضرار على أخلاق صاحبها ولها أضرار على المجتمع حيث أنها تورث العداوة والبغضاء ولها أضرار دينية بصدها عن ذكر الله وعن الصلاة ولها أضرار اقتصادية بصرفها الناس عن الجد والاتقان والمواظبة.

ثم أن هذه الأضرار منها ما هو ظاهر لا يخفى كأضرار الرسوة والسرقة والحرابة والكذب وغير ذلك.

ومنها ما يكون فيه بعض الخفاء ويلتبس على بعض الجهلاء كأضرار الربا.

فالربا الذي لا يرى منه الجهال الا ما يظهر لهم من المنافع المتبادلة ينطوي على مفاسد عظيمة ومضار خطيرة أكثرها يعود على المجتمع عامة وأعلبها يعمل ببطء وخفاء في تحطيم القيم، وقل من يرى يد الربا وهي تعمل في دأب من وراء أستار المنافع المتوهمة، تعمل على تدمير المبادء والقيم وقلب الموازين والأوضاع.

وحتى هذه المضار التي قد تعاجل آخذ الربا فيكوى بنارها ويصطلي بلظاها ليست إلا جزءا صغيرا من مضار الربا ومفاسده.

إن للربا أضرارا خطيرة على المجتمع شهد بها أعداء الإسلام وخصومه بل وشهد بها وفضحها فخول الاقتصاد وخبراء البنوك الذين تمرغوا في أوحال الربا.

هذه الأضرار الخطيرة قد لا تكون عاجلة ولكنها أكيدة تمخر في كيان المجتمع وجسد الأمة من الداخل فإذا به بعد فترة ينهار لا يمسكه شيء عن الانهيار ولا يجدي النحيب عليه وهو خاو على عروشه.

إن من أخطر أضرار الربا أنه بمرور الزمن يؤدي الى شطر المجتمع إلى طبيقتين متباعدتين أشد التباعد، طبقة المرابين الأثرياء الذين تتضخم الأموال بين أيديهم بلا تعب ولا مشقة، وطبقة الكادحين الذين يحسدهم الأثرياء على لحس الطين!!

كما أن الربا يزرع الشح والأثرة والأنانية في نفس الأثرياء ويزرع الحقد والحسد في نفوس الفقراء ويجعل قاعدة التعامل بين أفراد المجتمع قاعدة مادية يابسة بعيدة عن كل معانل التراحم والتكافل والتعاون بين البشر.

هذه بعض أضرار الربا التي شهد بها بعض أعمدة النظام الربوي العالمي، ولسنا بحاجة – نحن المسلمين- الى شهادة من هنا او تصديق من هناك، لسنا بحاجة الى كل ذلك وإنما يكفينا ما يقرره الوحي المعصوم الذي جاء من عند العليم الخبير سبحانه وتعالى.

تخلص من كل ما تقدم إلى أن الله تعالى شاء بحكمته البالغة ورحمته الواسعة، شاء أن ينحصر ابتلاؤه لعباده بالتحريم فيما فيه مضرة عليهم.

ولا يشك عاقل في أن هذا المسلك الحكيم الرحيم من أعظم اليسر الذي تتصف به الشرائع الربانة وتنفرد شريعة الاسلام بالحظ الأوفر والنصيب الأكبر منه.

وهذا اليسر وهذه الرحمة التي تمثلت في تحريم الخبائث من تمام نعمة الإسلام ولذلك وردت الإشارة إلى تمام هذه النعمة وإكمال هذه المنة في الآية التي حرمت الميتة والدم ولحم الخنزير وبعض الخبائث فقال تعالى ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾[10] فلله الحمد على نعمة الإسلام.

[1] البقرة 219.

[2] المائدة 91.

[3] البقرة 222.

[4] الانعام 145.

[5] الاعراف 157.

[6] البقرة 29.

[7] النحل 97.

[8] الروم 41.

[9] المجادلة 10.

[10] المائدة 3.