من أبرز أسماء الله الحسنى (الرحمن) و( الرحيم)، وقد تكرر هذان الاسمان العظيمان في القرآن كثيراً، حتى إنهما ليتكررا في فاتحة الكتاب، فتفرد لهما الآية الثالثة منها بعد ورودهما في الآية الأولى وهى البسملة.
ورحمة الله تعالى من أظهر صفاته العلا التي تحدث عنها القرآن الكريم. وآثار رحمة الله تعالى كثيرة لا تحصى. ولكن من أبرز وأظهر هذه الآثار التي يشير إليها القرآن، بل يؤكدها تأكيداً ويقررها هي أنى الله تعالى يتوب على من تاب ويغفر لمن رجع إليه و آب. وهذا من أعظم مظاهر اليسر في الإسلام بلا أدنى شك. وذلك لأن الإنسان خطاء كثير السقوط بطبعه. فلو أغلق دونه باب الرجوع والأوبة لضاع في المتاهة واستبد به اليأس وقتله القنوط.
إن الله تعالى الرحيم الودود الذى يعلم ضعف عباده وما يحيط بهم من فتن وما يحيق بهم من عداوة الشياطين ليفتح لهم أبواب التوبة والمغفرة على مصراعيها. فها نحن نسمع نداء الحق في كتابه الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾[1].
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية كائنة ما كانت، و إنها الدعوة للأوبة، دعوة العصاة المسرفين الشاردين في تيه الضلال، دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله. إن الله رحيم بعباده وهو يعلم ضعفهم وعجزهم ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجة… يعلم الله عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له يد العون، ويوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه، ويقيم خطأه على الطريق. وبعد أن يلج في المعصية ويسرف في الذنب ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يقبل، في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط يسمع نداء اللطيف: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ ﴾ [الزمر: 53] وليس بينة – وقد أسرف في المعصية ولج في الذنب، وأبق عن الحمى وشرد عن الطريق – ليس بينه وبين الرحمة الرخية الندية إلا التوبة، والباب المفتوح ليس عليه بواب يمنع ولا يحتاج من ينج فيه إلى استئذان “[2].
وباب التوبة ليس مفتوحاً فحسب، لكنه يصدر منه النداء تلو النداء.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [3].
﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾[4]
” يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالى يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقاربها مغفرة “[5].
ولا تعجب إذا علمت أن الله تعالى يفرح بتوبة عبده إذا تاب إليه.
• عن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: ” الله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها وثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح ” [6].
فهل هناك أدل على ود الكريم الحليم لعباده من هذا الحديث.
وقبول التوبة دائم مستمر بالليل والنهار إلى الغرغرة أو طلوع الشمس من مغربها.
• عن أبى موسى الأشعري عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسي النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسي الليل حتى تطلع الشمس من مغربها”[7].
• وعن عبد الله بن عمرو عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ” إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر “[8].
والحديث عن هذا الأمر يطول جداً، ولكن الذي يهمنا منه أنه مظهر من مظاهر يسر الإسلام. فلذلك نكتفي بهذا القدر – وكلنا عزم على التوبة – وننتقل سريعاً إلى الفصل الأخير من الكتاب. ننتقل وقد امتلأت قلوبنا غبطة وانشراحاً بهذا الدين العظيم…
[1] الزمر 53.
[2] الظلال ص3058.
[3] التحريم 8.
[4] النور 31.
[5] حديث قدسي رواه الترمذي عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة.
[6] رواه مسلم.
[7] رواه مسلم.
[8] رواه الترمذي.