هل نحن نواجه معضلة عندما نتحدث عن الفصل بين الدعوي والسياسي؟ وهل المسألة معقدة في أصلها إلى الحدّ الذي يجعل الخلق يحارون ويمارون كأنهم يعالجون قضية ميتافيزيقية لا شاهد عليها من الواقع ولا برهان؟ أعتقد أنَّ الأمر ليس على هذا النحو البتة، وأتصور أنّ المشكلة نشأت من التلبيس والتدليس الذي يُمَارَس بصورة جماعية؛ من أجل تمرير المشروع الكبير الخطير الذي يمثل ردَّة كاملة عن أحد – بل عن أكبر – الثوابت المحورية للحركة الإسلامية المعاصرة، والذي ظلت الحركة مستمسكة به معتصمة بمتنه منذ ولادتها في أوائل القرن المنصرم إلى وقتنا هذا.
وفك الاشتباك وفض الارتباك يكون بالإجابة على هذا السؤال الذي يمثل المدخل الوحيد الآمن إلى الحقيقة: ماذا تقصدون بالفصل هذا؟ أهو فصل إداريّ من قبيل توزيع التخصصات والأدوار؟ أم هو فصل بين المجالين وتمييز بين الفضائين؛ يجعل المسار السياسي والحزبيّ بمنأى عن رؤية الحركة الإسلامية في التغيير وفي التمكين للإسلام وفي إقامة المجتمع المسلم، وبمعزل عن حزمة الأهداف والاستراتيجيات والقيم والمبادئ التي قامت عليها، والتي تكونت ونمت مرتبطة بعقيدة الأمة وشريعتها؟ فإن كان الأول، فلا إشكال من حيث الأصل يستدعي هذه الضجة الكبرى، وإن كان الثاني، فهي علمنة صريحة وفجة لا تواريها ضجة مهما كبرت واتسع نطاقها.
إنَّ الفصل الإداريّ بين العمل السياسيّ والعمل الدعويّ قضية بديهية لا يخالف فيها عاقل، ولا تحتاج أكثر من إجراءات داخلية تحت سقف الحركة، ولا تستدعي إقامة ندوات ولا مؤتمرات ولا ذهاب ولا إياب، وقد كانت موجودة في الصدر الأول في العهد النبوي وعهد الخلافة الراشدة بدون تكلف ولا ضجيج. فباستثناء الأفذاذ الكبار أمثال الخلفاء الأربعة، لم يكن هناك خلط قط بين التخصصات المختلفة ولا بين المواهب المتعددة، فلم يكون أبو هريرة وجابر ومعاذ وزيد وأمثالهم من العلماء يمارسون السياسة ولا قيادة الجيوش، ولم يكن خالد وشرحبيل وعمرو وأمثالهم يقحمون أنفسهم في ميدان العلم رواية أو دراية، بل إنَّ التخصصات داخل مجال العلم والدعوة كانت قائمة. فالنبيّ صلى الله عليه وسلم فرّق بين الراوية والفقيه، وألزم الراوية المحدث أن يبلغ ما سمع دون تدخل فيه بتأويل؛ لأنه سيصل إلى من يبرع في فقهه وفهم مراميه، فقال: “نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَ، فَرُبَّ مُبَلِّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ”.. “نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا، فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ”.. وذهب في التخصصية إلى مدى أبعد فقال: “… وَأَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ…”.
وحتى في الواقع المعاصر، ميزت الحركة الإسلامية في كثير من الأحوال بين التخصصين تمييزا إدارياً بدرجة جيدة يمكن البناء عليها، فالسياسيون أمثال الرئيس محمد مرسي ووزراؤه وأغلب البرلمانيين والحزبيين؛ لم يقحموا أنفسهم في المجال الشرعي أو الدعوي، والشرعيون من الأزهريين وغيرهم لم يكن لهم نشاط سياسيّ إلا في القليل النادر. فالمسألة في هذه الحدود بسيطة ولا تحتاج إلى إقامة الدنيا في مشارق بلاد العرب والعجم ومغاربها، فمن أراد أن يصنع هذا لن يمنعه أحد ولن يجادله أحد، ولن يضطر إلى عقد الندوات وإثارة المساجلات، لكن الحقيقة فيما يبدو خلاف ذلك.
وليس صحيحا أنَّ السياسة نجاسة ينبغي أن يتطهر منها ثوب الفقيه ويترفع عنها رداء الداعية والواعظ، ولو كانت السياسة في نظر الإسلام رجساً لوجب على كل مكلف في الأمة اجتنابها، فليس في التكليف فرق بين داعية ومدعو، ولو كانت دنساً لكان محمد وصحبه أول المجانبين لها المباعدين لحماها، وإنَّما السياسة ترويض للأوضاع بما يجعلها أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وهو منطلق شرعيّ من صميم الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل به كتبه، وقد كان يمارسها الأنبياء ومن بعدهم الخلفاء، ففي الحديث المتفق عليه: “كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ”، أمَّا الرجس والنجس والدنس فهو ما يمارس باسم السياسة من أقوام لا خلاق لهم، ولا صلاح للعالم إلا بإقصائهم أو تقليص دورهم وتحجيم شرهم.
وليس صحيحاً كذلك أنَّ السياسة كلها متغيرات بإطلاق، فليست كلها متغيرات، وليس المتغير فيها متغيراً بإطلاق، وإنّما السياسة في نظر الشريعة ميدان فيه ثوابت ومحكمات ومبادئ راسية، وفيه إلى جانب ذلك متغيرات، فمن قبيل الثوابت الوفاء بالعقود والعهود إلى الحدّ الذي لا يسمح للدولة المسلمة أن تتذرع بهاجس الغدر من الطرف الآخر لتبادر إلى الغدر به: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ” (الأنفال: 58)، “وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (النحل: 94).
والمتغيرات في ميدان السياسة، وإن كانت هي الأغلب ليست متغيرات بالمعنى المطلق، وإنما هي متغيرات في مساحات المصالح المشروعة أو المصالح القريبة منها، وهي ما تسمى بالمرسلة، أو في دوائر الرخصة التي تبيح في حال الاضطرار ما لا يباح في حال الاختيار، وكلها مساحات تحت سلطان الشريعة على وجه العموم، وإن لم يرد نص في كل مفردة منها. وليس مرخصاً للسياسيّ أن يطل برأسه خارج هذه المساحات، ولو ظنّ أنَّه بذلك ينصر الإسلام أو يخدم المجتمع المسلم؛ لأنّ الدولة في الإسلام دولة “مبدئية” أو دولة مبادئ قبل كل شيء.
أمَّا القياس على التجربة التركية فهو قياس مع الفارق؛ لأنَّه مما يجوز في حال الاضطرار والاقتهار وانسداد الأفق أن تنهض مجموعة من المسلمين لتأسيس حزب في دولة علمانية، فيسعى إلى تحقيق ما يمكن تحقيقه من المصالح المشروعة ودفع ما يمكن دفعه من المفاسد الممنوعة، ويمهد السبيل لحريات حقيقية يراهن عليها أهل الحق، وذلك دون أن يؤصل عمله هذا بضرورة الفصل بين الدعوي والسياسي، ودون أن يزور في أحكام الشريعة وثوابت الدين، ودون أن يصادر على العمل الإسلامي.. فهذا جائز لمن فعله بشروط، منها أن يفعل هذا مستصحباً حال الضرورة والإكراه، ومستأنساً ومسترشداً بقواعد السياسة الشرعية العامة المبنية على جلب المصالح ودفع المفاسد، وأن تقدر الضرورة بقدرها، فلا يتوسع في التصريحات التي تكرس للباطل وتوطن للمخالفات الشرعية.
ومن التلبيس والتدليس أن يقال إنّ الحزب يختلف في هذا عن الدولة، وإن الحزبي يختلف عن السياسي؛ لأنَّ الحزب حزب سياسيّ، يمارس السياسة من أجل إقامة الحكم في الدولة وفق رؤيته ومنهجيته ومبادئه، وبغير هذا لا يسمى حزبا سياسيا من الأصل، ومنه كذلك استبدال كلمة فصل بكلمة تمييز، فهو تلاعب بالألفاظ وحسب. والحقيقة أن التمييز بين الدعوي والسياسي أو الحزبي هو في جوهره ومضمونه ومآله فصل بين الدين والدولة، وهذا ما لا يمكن أن يقبله فكر ينسب نفسه للإسلام.
وأخيرا، فليس هناك شك في صلاح نيات القوم وحسن مقاصدهم، لكن يبقى أن النية وحدها لا يقوم به مشروع، ولا يناط بها تغيير، والأمة بحاجة إلى رؤية واضحة منبثقة من عقيدتها وشريعتها، وإلى مشروع واضح يفرق بين حال الرخصة وحال العزيمة، ويعبر بالأمة عبر مراحل بارزة الخطوط إلى حيث رسمت لنفسها مهتدية بكتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.