“… لا نستطيع أن نجيب على العلاقات الدولية وأزمات العولمة بمنطق الشافعيّ. لا يمكن أن نفكر بمنطق: هذا وثني وهذا توحيدي، هذا وضعي وهذا سماوي، فهذا زمان ولى التصنيف فيه. نحن إزاء نمطية جديدة، فلم تعد الخطورة من الأديان الوضعية، وإنما تتمثل الخطورة وجذور الأزمة في هذا الذي يريد نزع القداسة عن العالم… من خلفاء الله في الأرض الآن؟ من الخلفاء عن الله عمليا في الأرض الآن؟ نحن معنيون بأن نبتعث المزاج القرآني”.
هذه بعض الجمل التي قالها الأستاذ “دوَّاق” في مقطعه المشؤوم ذاك، فهل هي تعكس توجه المدرسة التي ينتمي إليها “مؤمنون بلا حدود”؟ وهل من قبيل “اللاحدود” قوله: “لا يمكن أن نفكر بمنطق هذا وثني وهذا توحيدي، وهذا سماوي وهذا وضعي”؟ أتصور أنّ سياق كلامه يجيب على هذين السؤالين ببساطة وتلقائية، غير أنَّ الأهم من ذلك، هو أنَّه يضع المتلقي لكلامه أمام تناقضية لا مثيل لها، عندما يُتْبِع هذه الجمل بدعوته لبعث المزاج القرآني. وإذا صح تعبيره؛ أليس من المزاج القرآنيّ (البالغ في وضوحه مبلغ الضُّحى) الفصلُ والتفريقُ في حسم وحزم بين التوحيدي والوثنيّ؟ وكذلك وبين السماويّ والوضعيّ؟
إنّه لا تكاد توجد في كتاب الله قضية أَبْيَنَ ولا أَجْلَى من قضية التفريق بين التوحيد والشرك والكفر، وقضية الفصل بين أهل التوحيد وأهل الشرك والكفر، التفريق والفصل الذي بينت الآيات حدوده ورسمت معاملة بدقة بالغة، بما لا يسمح بالتداخل مع معاني العنصرية المقيتة، وبما لا يمنع من البرّ والإحسان والصفح الجميل، وبما يمهد لوضع تكون البشرية في مجموعها أسلم والإنسانية في عمقها أحكم. تفريق وفصل يحفظ للتوحيد مقامه، وللموحدين منزلتهم، دونما عدوان إنسانية الإنسان، ولا إنقاص من كرامة الآدميّ، وهذا كله بلغ مبلغا يجعله – إن صح التعبير – مزاجا قرآنيا عاما.
وهذه آيات أسوقها دون تقييد لها بتفاسير من يعتبرهم عايشوا “الشرطية التاريخية”: “قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ” (الممتحنة: 4).. “الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)” (محمد: 1-3).. “أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ” (محمد: 14).. “أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36)” (القلم: 35-36).. “أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ” (ص: 28).. “لَا تَجِدُ قَوْما يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” (المجادلة: 22).. “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (المائدة: 51).. “لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاة وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ” (آل عمران: 28).. “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانا مُبِينا” (النساء: 144).. “هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ” (التغابن: 2).. “إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرا وَإِمَّا كَفُورا) (الإنسان: 3).. “ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلا سَلَما لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ” (الزمر: 29).. “وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ” (غافر: 58).. “وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23)” (فاطر: 19-22).. “فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادا كَبِيرا) (الفرقان: 52).. “يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيما” (الأحزاب: 1).. “وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ” (البقرة: 253).. “إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْما عَظِيما” (النساء: 48).. “حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ” (الحج: 31).. “أَوَمَنْ كَانَ مَيْتا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ” (الأنعام: 122).. “وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)” (يونس: 105-106).. “وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَاما وَأَحْسَنُ نَدِيّا) (مريم: 73).. “وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئا قَلِيلا (74) إِذا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرا (75)” (الإسراء: 74-75).
وليست هذه الآيات سوى نماذج مما جادت به الذاكرة في الحال، وإلا فـ”المزاج القرآنيّ” في التفريق بين الإيمان والكفر وفي الفصل بين المؤمنين والكافرين صبغة ظاهرة كشمس الظهيرة، غير أنَّ هذا الفصل لم يُبْنَ على عنصرية ولم يورث حقدا أو عدوانية، فرسول الله رحمة للعالمين: “وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَة لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء: 107)، والأمة الإسلامية أمة أخرجت لخير البشرية: “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ” (آل عمران: 110)، وهي مأمورة بالعدل والقسط والبر والوفاء بالعهود والعقود: “لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ” (الممتحنة: 8).. “إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ” (النحل: 90).. “وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ” (النحل: 91).. “وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ” (التوبة: 6).
وإذا كان الجهاد قد شرع لهذه الأمة، فإنه لم يشرع للاستعمار والاستحمار، ولا للاحتلال والاستحلال، وإنما شرع لدفع الفتنة عن كاهل الخلق، وكسر الحواجز التي تحول دون الحرية الحقيقية؛ التي هي المدخل الآمن للإيمان، لذلك إذا تحقق هذا قيل للناس: “لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ” (البقرة: 256)، وتركت لهم حرية العقيدة المقابلة بالمسؤولية: “وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقا” (الكهف: 29).
أمَّا “المزاج القرآنيّ” في ما يتعلق بالتمييز بين السماويّ والوضعيّ، فهو أشد وضوحا وظهورا، فالوضعيّ (ما لم يكن أمرا دنيويا لا يتعارض مع ما جاءنا من عند الله) هو في غالب أمره، هوى وباطل وجاهلية، وقد جُعل هذا كله في كتاب الله تعالى مقابلا للشريعة “السماوية”: “ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) (الجاثية: 18).. “اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ” (الأعراف: 3) “أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْما لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ” (المائدة: 50).. “ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ” (محمد: 3).. “إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى” (النجم: 23).. “فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ” (المائدة: 48).. “وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ” (المائدة: 49).
وظاهر من تساؤل الرجل عن خلفاء الله في الأرض اليوم، أنَّه يعتبر الغرب بحضارتهم هم خلفاء الله في أرضه في هذا الزمان؛ ربما لكونهم قد انفردوا بالمدنية والعمارة والتفوق الماديّ والتقنيّ، وكأنَّه يفسر قول الله تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَة” (البقرة: 30) بأنّ الإنسان يخلف الله في الأرض بإدارتها وعمارتها على أي وجه كانت الإدارة والعمارة، وهذا خطأ فاحش؛ فخليفة الله في أرضه هو من يعمرها وفق منهج الله تعالى، لذلك قال الله تعالى لداود عليه السلام: “يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَة فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ” (ص: 26).
ولقد تساءل بعد ذكر الخلافة عمّا قدمناه نحن المسلمين للبشرية، تساءل باستنكار واستبعاد؛ لكوننا لم نقدم للبشرية مثل ما قدمه الغرب لها، ومن حقنا أن نذكره (وهو جزائريّ) بما قدمه الغرب (خلفاء الله في عصرنا الحديث!!)؛ قدموا للجزائر ما يزيد على مليون شهيد، وما يربو على قرن من الزمان احتلالا وإذلالا، وقدموا لسائر بلدان الأمة الإسلامية قريبا من هذا؛ سوى الفتن والمؤامرات والتقسيم والغزو الفكري وغرس الكيان الصهيوني في جسد الأمة. هذا في أوائل القرن المنصرم وأواخر الذي قبله، أمّا في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين، فهو ما ترون من فتن وحروب ودعم للانقلابات وإعادة تقسيم للأمة على أسس عرقية وإثنية، وملايين الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ والعجزة، هذا سوى الصد المباشر عن سبيل الله ودعم كل حركة تسعى لتقويض الإسلام، بما في ذلك حركات تنسب للمسلمين وتنتمي لجلدتهم، وهي تسعى لتفجير الإسلام من داخله وعلمنته من قلبه ونواته.
وقدموا لكل أمة مستضعفة في الأرض قريبا من هذا، واسألوا أرض أمريكا وسماءها عن أمة من البشر تم محوها برمتها من على وجه الأرض التي ظلت مسكنا لها دهورا متطاولة، كانت تسمى بالهنود الحمر، واسألوا القارة المظلومة المهضومة أفريقيا عن 210 مليون من أبنائها، تم اصطيادهم واستعبادهم في بناء الحضارة الغربية، واسألوا غاباتها وسهولها وهضابها عن الخيرات والثروات والكنوز التي نهبت ولا تزال تنهب، واسألوا فيتنام وهيروشيما ونجازاكي، واسألوا القبور الجماعية في طول الأرض وعرضها عن عشرات الملايين الذين قتلوا في الحربين العالميتين. اسالوا لتعرفوا ما الذي قدمه الغرب المتمدين للإنسانية.
إنّها ليست سوى دعوات تستهدف النيل من ثوابت الإسلام وأصوله، وليس لها من العدل أو الإنصاف نصيب. فلنكن منها على حذر، ومن خداعها وزيفها على يقظة.