عبارة صدرت بعفوية وتلقائية من قلب شاب أو فتاة، بعثت في نفسي الأمل وأحيت في قلبي التفاؤل وشعرت فيها بالإبداع والتجديد، استمدت العبارة أصالتها وعمقها من محاكاة القرآن، واستمدت من ينبوع الصدق والإخلاص بريقها ورونقها، هي تلك العبارة البسيطة التي تناولها النشطاء على الفيس بوك مسطرة على إحدى الحوائط بخط لا يقل عنها في البساطة والتلقائية: “ربّ أرني كيف تحيي الثورة”!
إنَّها عبارة ساحرة في بعث الأمل وبث التفاؤل، إنَّها بكل بساطة تعبير من بنان واحد عمّا يجيش في قلوب الملايين، وهذا هو سحر البيان في أعلى تجلياته، وإذا كانت العبارة تشع دلالات شتى في كل اتجاه؛ فإنّ ألمع وأجلى إشعاعاتها: التفاؤل.
والتفاؤل حالة نفسية تَعْبُرُ فوق الواقع الأليم إلى المستقبل الواعد العظيم.. حالة يتعاون في تشكيلها جملة من المشاعر الوجدانية الغلابة، مثل التوكل على الله وحسن الظن به، وعظيم الثقة في وعده، مع الاعتداد والثقة بالنفس، والقدرة على التخلص من دواعي الهزيمة النفسية.. حالة ترى الواقع ماضيا، والمستقبل حاضرا باديا، وتصنع السعادة والغبطة، وتنشر البشرى وتبث الأمل، وتهيئ النفوس البائسة المحبطة للانطلاق والعمل.
ولأنّ الإسلام العظيم ينقل الناس من واقعهم المظلم إلى مستقبلهم المشرق، وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ينزع بالناس إلى حالة التفاؤل الباعثة، ويبتعد بهم عمّا يضادها من التشاؤم المثبط والتطيّر المحبط. فها هو ينهى عن الطيرة ويحثّ على التفاؤل وعلى كل ما يدعو إلى التفاؤل. ففي صحيح البخاريّ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا طيرة، وخيرها الفأل”، قال: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: “الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم”. وروى مسلم عن أنس أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا عدوى، ولا طيرة، ويعجبني الفأل: الكلمة الحسنة، الكلمة الطيبة”.
ثم وجدناه صلى الله عليه وسلم يصنع التفاؤل ويبعث الأمل في المواضع الباعثة على اليأس والقنوط والإحباط، فها هو في قلب الحدث المزلزل يبشر بالفتح الكبير الذي ينهي دور كل الإمبراطوريات الجاهلية لصالح هذه الأمّة المستضعفة في قاع الصحراء العربية. فقد سجل التاريخ أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بالخندق قالوا يا رسول الله إنا وجدنا صفاة لا نستطيع حفرها؛ فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقاموا معه، فلما أتاها أخذ المعول فضرب به ضربة وكبر؛ فسمعوا هدة لم يسمعوا مثلها قط، فقال: فتحت فارس، ثم ضرب أخرى فكبر؛ فسمعوا هدة لم يسمعوا مثلها قط، فقال فتحت الروم، ثم ضرب أخرى فكبر؛ فسمعوا هدة لم يسمعوا مثلها قط، فقال: “جاء الله بحِمْيَر أعوانا وأنصارا”.
ومن قبل ذلك (عندما كانوا مستضعفين في شعاب مكة يسامون العذاب) بشرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحيي في نفوسهم الأمل. روى البخاريّ عن خباب بن الأرت، قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متوسد برده له في ظل الكعبة، قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: “كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليُتِمَّنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون”.
ولقد عاش الصحابة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى فتحوا تلك البلاد ووطئوا أكنافها بأرجلهم، ورأوا بأعينهم سراقة بن مالك يلبس سواري كسرى بعد انتصار الجيش الإسلاميّ في نهاوند، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم واستبشارا مع استبشارهم وتفاؤلا بالخير والبناء، فكان هذا التفاؤل له دوره البارز في مدّ سلطان الإسلام إلى شرق الأرض وغربها، وفي إقامة صرح حضاريّ هائل، عاشت البشرية في ظله زمانا سعيدا امتد لقرون عديدة.
وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينطق بما يوحى إليه؛ فقد ترك فينا الوحي المعصوم كله، تركه ينطق بالحق الكبير الذي يفجر ينابيع التفاؤل، فكيف نذهل عن ذلك الوعد الربانيّ الكريم: “وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ” (الأنبياء: 105)، بل كيف ننسى ذلك الوعد الأكثر صراحة وتحديدا: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ” (النور: 55).
ونحن إذ نستقبل تحولا حضاريا كبيرا، ونعاني لأجله حالة الخروج من عنق الزجاجة؛ نحتاج إلى إحياء التفاؤل؛ لننطلق الانطلاقة الكبرى التي سيتحقق بها وعد الله لهذه الأمة بالنصر والتمكين. وما لا يعلمه كثير من الناس، أنّ مفكري الغرب يرون ما لا نرى نحن؛ وهذا سرّ الحرب المجنونة التي يشنّها الغرب علينا، وفي الوقت الذي ينبعث فينا التفاؤل، تراهم يعانون من حالة من التشاؤم غير مبررة في ظاهر الأمر، وتسمع الناصح لهم يصرخ فيهم: “نحن لا نملك شيئا لنكون متشائمين نحوه عدا التشاؤم نفسه.. وإنّ تدوير الغرب ليعود إلى التفاؤل سوف يستغرق حركة فكرية جديدة كاملة، وليس هناك أيّ علامة على مثل هذا التحول في الأفق”.
وإذا كنّا قد ابتلينا بما ابتلينا به على أثر الانقلابات على الموجة الأولى من الثورة، فإنّها (مهما كانت قسوتها) ليست آخر الدنيا، والأيام دول، وانكسار الطريق لا يعني نهايته، وكتاب الله هو الذي يقرر هذه الحقائق الكبرى: “وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ” (آل عمران: 140). وقد نزلت هذه التقريرات عقب أحداث أحد، ونزل معها هذا الأمر المانع من الإحباط: “ولا تهنوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين”.
فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تيأسوا ولا تحبطوا، بل تفاءلوا وأبشروا وبشروا، وانشروا روح التفاؤل والأمل، ولكن لا بدّ مع ذلك من مواصلة العمل، وغدا (إن شاء الله) سوف نتذاكر تلك الأحداث ونتذاكر معها دعواتنا للتفاؤل، عندها سوف نغتبط كما اغتبط الأولون، ونقول مثلهم: “عند الصباح يحمد القوم السرى”.