الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
بعد مشهد الجمعة الماضية وما تلاه؛ هل الأملُ لا يزال قائماً؟ أم إنّ اليأس أطبق بجناحيه على الخلق وأحكم قبضته على قلوب العباد؟ ربما بلغ الأمر في الموجة السابقة إلى حدّ المفاجأة التي لم يكن السيسي نفسه يتوقعها، فبرغم خروج أعداد ليست بالقليلة في أماكن ليست خافية ولا مجهولة؛ لم يحدث الزخم الذي كنّا نتوقعه ونعلق به آمالاً عراضاً، وبدت الصورة العامة خافتة وباهتة، وبرغم الهزّات العنيفة التي أصابت السيسي جَرَّاءَ الفضائح التي أعلن عنها الفنان والمقاول “محمد علي”؛ بدا السيسي بين أطقم نظامه ودوائر حكمه وشراذم المصفقين والمطبلين له، بدا كأنّه حاز نصراً أو تخطى عقبة كأداء!!
وليس عيباً في الحقيقة أن يرفع الناس سقف طموحاتهم، وأن يطلقوا العنان لآمالهم؛ فهذه طبيعة إنسانية لا يملك أحد لها دفعاً، فلا عيبَ في ذلك ولا تثريب؛ إذ الأمل أكبرُ دافع للسعي والعمل، لَكنْ عندما يتناقل رجال ليسوا صغارا ولا مغمورين أخبارا أقل ما يقال فيها أنها (مفبركة)، وعندما يساهم الكثيرون في نشرها وترويجها، وعندما يسارع الأكثرية إلى ابتلاعها وهضمها؛ فهذا هو الخطب الجلل والداء الذي تتضاءل أمامه كل الأدواء والعلل، لقد ذكرونا بقصة (دوبلير السيسي!) وذكرونا كذلك بأخطر عيوبنا منذ أن كشفت ثورات الربيع العربيّ عن تجريف الأنظمة المستبدة لكل مقومات الكياسة!!
لقد عاش الشعب المسكين أحلام المؤامرات والدسائس التي ستأكل النظام من داخله؛ لتسلم لهم ميادين مصر؛ فيدخلوها آمنين سالمين، وبات الناس ليلتهم وفي أخيلتهم مشهد غاية في اللطافة واللياقة: الشوارع خالية من العسكر ومن عناصر الأمن، اللهم إلا بالقدر الذي يسمح بتلوين المشهد، وتمرير “العملية!” وأجنحة النظام تتشحط في دمائها جراء صراعاتها الداخلية، وطائرة السيسي حائرة في السماء لا تدري إلى أي العواصم تتجه؛ هل تُيَمِّم وجها شطر “الرياض” أم تختصر الطريق إلى “تل أبيب”؟ باتوا ليلتهم في أحلام وردية؛ ليستيقظوا على ثكنة عسكرية تبتلع القاهرة وتحيطها من جميع جوانبها، وعلى طرق مسدودة وشوارع بقوافل الأمن والبلطجية ممهودة، وعلى قطيع من المخلوقات الآدمية تملأ ساحة المنصة، وتطأ بأظلافها دماء الشهداء دون خجل ولا حياء، وترقص فوق ذكرياتها النائمة تحت رداء المأساة، والرجال والنساء والصبيان يتبارون ويتدافعون في مشهد هابط مُسِفّ للحصول على كراتين “الزيت والسكر” و”سندوتشات الجبنة النستون والحلاوة الطحينية”!!
إنّ الأمل بعد الله تعالى في الأنقياء من أبناء هذا الشعب، وما أكثرهم، أمّا التعويل على عسكر عساهم يستيقظون، أو عناصر شرطة عَلَّهم يتوبون إلى ربهم ويرجعون، أو حتى على رجال من هؤلاء أو هؤلاء أو غيرهم ربما تأخذهم حمية – ولو جاهلية – لأنفسهم ومراكزهم فيتحركون، ويحدثون هزة قد نجني من ورائها خيرا ولو يسيرا؛ كل هذا جري وراء السراب واستظلال بعاديات السحاب.
لقد استبشرنا بدعوة “محمد علي” لأنّه شاب من أبناء مصر الشرفاء الأحرار، ولأنّه استطاع أن يخاطب أبناء مصر باللغة التي يعرفونها، ومن خلال حقائق موثقة لا أكاذيب ملفقة، وفتح زاوية المواجهة مع النظام؛ فانكسرت ثنائية “عسكر إخوان” وانحسرت نظرات التخوين للإسلاميين والتهوين من شأن المعارضين أجمعين، واتسعت مع انفراج زاوية المواجهة رقعة العداء للسيسي وحكومته، وبدأت القضية المصرية تضع أقدامها على طريق العالمية لتصبح مسألة السيسي والمصريين قضية رأي عام عالميّ، استبشرنا بذلك ولازلنا نستبشر به، وهذه هي المكاسب الحقيقية التي يجب أن نسعى لتضخيمها.
ووراء هذه المكاسب مكاسب أخرى لا يستهان بها، ولا يحل التقاعد عن تعظيمها، منها كسر الجمود الذي أصاب المشهد، فلا ريب أن أول الغيث قطرة، وأن معظم النار من مستصغر الشرر، وأن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وها هي الخطوة الأولى قد خطوناها، وإنها لخطوة كبيرة رغم كل ما حدث؛ فحسبك دليلا على ذلك تلك التشنجات التي ظهرت على الأداء الإعلامي والأداء الأمني بل وأداء السيسي نفسه، ومن المكاسب كذلك نزع القدسية عن شخص السيسي لدى عامة الناس؛ فقد أهين ومزقت صوره، وعلا في عنان السماء الهتاف الذي يحط من قدره وينال من هيبته، وانتشرت “الهاشتاجات” والتغريدات التي تذكره بالأوصاف المشينة والمهينة، وهذه دائما مقدمات للسقوط.
ولا يصح أن نغفل عن مكتسب كبير ألا وهو انكسار آخر مسمار كانت تعلق عليه البقية الباقية من الثقة في العسكر، لقد استبان الآن لكل عالم وجاهل وكل عاقل وأحمق أنّ العسكر ليسوا سوى محتلين لبلادنا بالوكالة، والوكيل لا يلتفت يمنة ولا يسرة إلا بإذن من الكفيل؛ ذلك لئلا تنخدع الثورة بهم يوما؛ فيوردوها موارد الهلكة كما فعلوا من قبل، ومن البدهيّ جدا ألا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
أمّا المكتسب الأعظم في هذه الموجة البسيطة التلقائية المباركة فهو عودة الروح للشعب، روح الأخوة وروح الوطنية، وروح المصري الذي يشعر بأنه عضو في جسد واحد يمتد من الأسكندرية إلى أسوان، روح التغيير التي تعشق الحرية وتنفر من القهر والاستعباد، روح الإباء والكبرياء التي تكفر بالطاغية وترفض الاستبداد وتشن الحرب على الظلم والفساد، هذه الروح تسود الآن المصريين، وهي وإن كانت تهمس اليوم همساً فعما قليل سوف تدوي في الآفاق وتبلغ السبع الطباق.
ولا أبالغ إذا قلت إن هذه البداية البسيطة هي الوضع الطبيعي الذي لا يصح غيره، ودورنا هو المضي به قدما خطوة خطوة للوصول إلى ذروة الثورة، ولكي ننجح في البناء على الخطوة السابقة لابد من الاستمرار وعدم التوقف، مع التنويع في الحراك ومفاجأة النظام في كل مرة بجديد لم يكن يتوقعه، ولا بد كذلك من استكمال عناصر الثورة الحقيقية.
أهمها أن حسن استثمار وتنمية الرافدين الرئيسيين المغذيين لكل حراك ينشد التغيير: “الوعي والغضب”، فيجب العمل على إنضاج الوعي وعلى تنضيج الغضب، ووسائل إنضاج الوعي وتنضيج الغضب متوافرة لدينا جميعا، المهم وحدة الوجهة وتواصل الجهود، مع وضوح الرؤية، وهي من عوامل النجاح أيضا، ورؤيتنا باختصار شديد تتلخص في “التحرير” أي: تحرير البلاد من المحتل بالوكالة، وبعد التحرير فنحن في بلادنا أحرار، نبنيها بالتشاور والتحاور كما تقتضيه مصالح البلاد والعباد، هذه هي الرؤية التي لا يختلف عليها اثنان في مصر كلها، ومن هذه الرؤية ينبثق مشروعنا الذي تتوافر جهودنا في رسم معالمه وتنفيذ بنوده، ومنه كذلك تنبثق خطط التغيير على أيدي المبدعين من أبنائنا.
وباقي العناصر ستأتي مع الأيام حتما، لكن لابد من السعي إليها من الآن، أهمها التواصل والتضامن والوحدة والثقة، أمّا الوسائل فمن العقل والشرع والحكمة ألا نصادر على الناس ولا نحجر عليهم، وأن نتركها لكل فصيل من أبناء شعبنا يبدع وينوع كل بحسب حاله ووضعه ودرجة خصومته، بشرط واحد هو الحفاظ على البلاد من الانزلاق إلى الفوضى والحرب الأهلية، وقبل ذلك كله الثقة بالله والتوكل عليه واستمداد النصر والعون منه (إن ينصركم الله فلا غالب لكم).