بين الوحدة والاصطفاف يقف الذهن العربيّ البسيط حائراً؛ لا يدري إلى أيهما يأوي، وعبثاً يحاول المتكلفون دمجهما في خطاب واحد؛ بغية خلق مزيج مركب تتداخل صفاته وتتعقد سماته، غير أنَّ الذهن البسيط لا يستعذب هذا المزيج ولا يستسيغه؛ لأنَّ براءته من العقد الفكرية المركبة جعلته يرى الخليطين على طبيعتهما: بينهما برزخ لا يبغيان، فيبقى حائراً غير مطمئن، مرتاباً غير واثق ولا آمن.
والحقُّ أنَّ العقل البسيط على صواب؛ فبين الاصطفاف والوحدة كما بين الدخان والسحاب، لا يستويان مهما تطاول الدخان وبلغ عنان السماء، وهل يسوي عاقل بينهما لمجرد الزخم الذي يصاحب كلاً منهما ؟
إنَّ الوحدة بناء ينظم اللبنات في نسق واحد، لا اختلاف بينها ولا اختلال؛ لذلك لم يأت الدعاء إليها في القرآن إلا مقروناً بالمنهج الذي تذوب فيه الذوات المختلفة؛ ليصبح المجتمع جسداً واحداً، ففي هذه الآية يقترن الاجتماع بالاتباع: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا) فحبل الله الذي تعتصم به الجماعة فيمسكها من الانفراط ويمنعها من التفرق هو القرآن، أي: المنهج الربانيُّ الذي جاء به القرآن، وفي آية أخرى تُذكر البيِّنات على أنَّها – إذا تمسك الناس بها – عاصمة من التفرق: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات) أمَّا في هذه الآية فتأتي طاعة الله ورسوله التي تتحقق باتباع الكتاب والسنة كمقدمة ضرورية لعدم التنازع: (وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم) كل هذا ليعلم الناس أنَّ الوحدة لا تتحقق إلا على منهج واحد لا يقبل الذوبان في غيره.
أمَّا ما يسمى بالاصطفاف فهو صورة من صور التحالف، والتحالف لا يشترط له ما يشترط للوحدة من وجود المنهج الجامع، وإنما يكفي وجود مساحات مشتركة يقع عليها التحالف، ويكون كل فصيل فيما وراء هذه المساحات المشتركة حراً فيما يأتي ويذر من التصرفات والأفعال والأقوال، بشرط ألا يكون في شيء من ذلك مرتكباً ما يضر بالشأن المتحالف عليه.
وفي الشريعة الإسلامية يجوز التحالف في المجالات السياسية والعسكرية وغيرها بثلاثة شروط أساسية، الأول: سلامة الأمر المتحالف عليه مما يخالف شريعة الإسلام، الثاني: ألا يكون التحالف مشتملاً على بنود تضر بفئات من المسلمين، الثالث: أن يوجد ما يدعو إلى ذلك مع انعدام البديل، ولا يضر بعد ذلك أن تكون أطراف التحالف مسلمة أو غير مسلمة، صالحة أو غير صالحة؛ لذلك صرح رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّه لو دُعِيَ في الإسلام لمثل حلف الفضول الذي كان في دار ابن جدعان في الجاهلية لأجاب، وقد كان حلفاً على نصرة المظلوم والقيام معه ضد الظالم.
لذلك لا يصح أن يسوق الدعاة إلى الاصطفاف من الإسلاميين وغيرهم النصوص القرآنية الداعية إلى الوحدة في معرض الدعوة إلى الاصطفاف؛ لأن ذلك من قبيل التزوير للنصوص والتزييف للوعي والممارسة غير المشروعة للإرهاب الفكريّ والعقديّ، ولا سيما إذا جاء هذا الاصطفاف متجاهلاً بنوداً يضر تجاهلها بالأمَّة.
وإذا كان الاصطفاف صورة من صور التحالف فإنَّ التحالفات لا تقوم إلا بين قوى حقيقية، ولا يوجد تحالف مع نخب أو رموز مجردة من القوة؛ لأنَّه يفضي إلى تقاسم المغانم دون المغارم، كما إنَّ مثل هذا لا يقع عادة إلا في وضع مُشَوَّه؛ كأن تكون هذه النخب – الخاوية الوفاض من الظهير الشعبيّ – لا يفرضها على الساحة إلا قوى خارجية تملي على المتحالفين شروطها بصورة من الصور، وهذا الصنيع المنحرف إن كان يناسب العمل السياسي في مرحلة من مراحله على وجه الضرورة فإنَّه لا يمكن أن يتناسب مع العمل الثوريّ، ولا سيما في مراحله الأولى التي يشترط لها في كل الدنيا صفاء الابتداء ونقاء الانطلاقة الأولى.
والمطلوب – تحديداً – هو توحيد الشعوب الثائرة، وهذا لا يتحقق باصطفاف أجندات متصارعة، إنما يتحقق ببروز جبهة قوية ذات عقيدة واضحة وأيديولوجية متميزة ومنتزعة من ثقافة الأمَّة، هذه الجبهة تقود المجتمع، ثم – بمرور الأيام مع نضوج التجربة واستوائها – يتراكم على متنها قوى وكيانات، تتموضع بحسب قربها أو بعدها عن المكون العقدي والفكري الذي ارتضته الشعوب وعاقدت عليه قيادتها.
وإلى أن يقع هذا فتوحيد الجهود بغير الحاجة إلى اصطفاف مفتعل ممكن، تتحدد معالمه عن طريق إدارة الاختلاف، وهذا كاف ولا شك، فإذا نجحنا في إدارة الاختلاف فنحن مؤهلون لاصطفاف يأتي في وقته، ويوضع بمقتضاه كل شخص وكل كيان في موضعه الصحيح المريح، دون إملاء أو فرض وصاية، ودون أن يضطر فريق إلى الرضوخ للإملاء مؤقتاً ريثما تواتيه الفرصة لينقلب على غريمه الذي اضطر أن يتخذه خدنا سياسياً مؤقتاً في مخدع ثوريّ منسوج من الأوهام.
ومع إدارة الاختلاف يكون التنافس الشريف، ينظمه ميثاق شرف لا يتجاوز حدود إدارة الاختلاف، مع جملة قليلة المفردات عظيمة التأثير من المبادئ المشتركة، فهل يمكن أن ننجح في التنافس المستظل بإدارة الاختلاف ؟ وهل يمكن أن يكون بيننا كما بين جبهات التحرير التي ملأت التاريخ ؟ إن وقع هذا فهو كاف في هذه المرحلة، وإن لم يقع فنحن غير مؤهلين لما هو أكبر منه سواء سميناه اصطفافا أو وحدة، والله أعلم.