الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل كنت على صواب عندما اتخذت قراري بولوج ذلك الباب؟ أم إنّني ارتكبت الخطأ الجسيم عندما سمحت لنفسي بالاشتغال بالسياسة عبر حزب سياسيّ شاركت في تأسيسة وتوليت رئاسته ومن خلال ترشحي لعضوية البرلمان؟ لا أدري على وجه الدقة، وليس عندي إجابة شافية على هذا السؤال الذي يلين تارة ويعتاص أخرى؛ حتى إنّني لا أبالغ إذا قلت: إنني في أوقات احتدام التفكير في هذا الأمر ربما أمسي برأي وأصبح بضده، وأغدو في تفكيري راكبا متن منطق وأروح ممتطيا ظهر آخر!!
لقد كنت رغم المضايقات والتحديات سعيداً بالعمل الدعويّ مغتبطاً بالاجتهاد الشرعيّ، كنت قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير أرفل في واحة من حب الناس، يغذيها ويسقيها وينميها ما كنت أبذله على الدوام من جهد في التعليم والإرشاد والإصلاح، تلك كانت حياة مخملية ناعمة، وكنت أنعم بها رغم ما كان يحوم في سمائها من غيوم سوداء، تدفعها من وقت لآخر رياح العداوة من نظام ظالم مستبد، لا يحب الخير في أي صورة كان ولا على أي نحو وقع، أمّا بعد الثورة فقد خرجت من تلك الحياة إلى حياة أخرى، خرجت أو أٌخرجت فلا فرق في النتائج النهائية.
كان من الممكن أن أخرج منها إلى مساحات ليست بعيدة عنها، إلى عمل دعويّ وشرعيّ على نطاق واسع، يستمد سعته من مساحات الحرية التي أطلقتها الثورة المباركة، وهذا ما قد وقع الكثير منه في صورة مؤتمرات ودورات وتحركات على مستويات متنوعة، لكنّني أبيت إلا أن أمدّ قدمي إلى أرض لم يسبق لي أن وقفت عليها من قبل، وإن كنت على المستوى النظريّ قد تجولت في رحابها عبر مؤلفاتي في السياسة الشرعية التي كان لها رواج بين الإسلاميين قبيل بزوغ الثورة وبُعَيد اندلاعها، فهل كنت على صواب أم على خطأ في هذا الخيار، لا أدري! لكنّ الذي أدريه الآن هو شيء واحد، وهو أنني لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما ولجت هذا الميدان!
كنت أرى كآخرين مثلي أن نترك الإخوان المسلمين يخوضون التجربة السياسية، وأن نكون في ظهرهم بالمعونة والمدد والتثبيت والسند؛ فإن نجحوا فقد فتحوا الباب للجميع، وإن كانت الأخرى بقي الآخرون في مواقعهم الدعوية والتربوية والخدمية والإصلاحية لم يضرهم شيء، غير أنّني كالكثيرين من أمثالي لا نملك أنفسنا – أو بالأحرى لا ننفرد بالقرار في أمر أنفسنا – في مثل هذه المواقف والظروف التي تعتبر فاصلة ومحورية، ومن هنا أستطيع أن أزعم أنّني دُفعت دفعاً إلى تأسيس حزب سياسيّ وإلى الترشح للانتخابات البرلمانية ضمن تحالف مع حزب الحرية والعدالة الذراع السياسيّ للإخوان المسلمين.
وهل كنت سالماً من حظ النفس في هذا؟ اللهم إنّي لا أدعي ولا أفتئت، والمرء لا يعلم عن نفسه كثيراً مما يخفي في دروبها ومنحنياتها، قال تعالى: (فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم 32)، ولأنّ المرءَ قد تخفى عليه شهوات نفسه أُمِرنا أن ندعو كثيرا: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أُشْرِكَ بِكَ وَأَنَا أَعْلَمُ وَأَسْتَغْفِرُكَ لما لا أعلم) (الأدب المفرد : 377)، وأُمِرنا أن نجاهد أنفسنا لنَبْلغَ الهدى ظاهراً وباطناً: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت 69)، وحسبنا في هذا أنّنا أردنا الخير لبلادنا، ولم نرد علوا في الأرض ولا فسادا، أمّا ما وراء ذلك فالله يعلمه، ونسأل الله العفو والعافية.
لكنني في المقابل أعلم عن نفسي ما لا يمكن أن يجهله المرء من نفسه، أعلم عن نفسي علم اليقين أنّني لم أكن ولن أكون في يوم من الأيام أداة في يد أحد أو جهة، سواء في ميدان الدعوة أو السياسة، وأسأل الله تعالى أن يثبتني على ذلك حتى ألقاه؛ فإنّ الفاجعة الباقعة التي لا يرقع فتقها راتق أن يروي الإنسان بعرقه غرسا لآخرين، ولاسيما إذا كانوا يناصبوننا العداء في العلن أو في الخفاء، فهذا ما أُعلن براءتي منه، ليس هذا وحسب؛ بل وأتحدى أن يواجهني أحد بما يدل على خلافه، وهذا مما ينبغي الإعلان والإفصاح عنه؛ وقد رأينا البعض ممن كانوا يُحَرِّمون العمل السياسيّ والبرلمانيّ يبادرون إلى تأسيس أحزاب سياسية؛ لا غرض منها إلا المنازعة والمشاققة للإخوان المسلمين، والجميع يعرف مَن وراءهم ومَن يدعمهم ويمولهم.
وعلى أيّة حال فقد أصبحنا اليوم نمارس السياسة، وها نحن نطوف في الشوارع والأزقة؛ نستجدي الناس أصواتهم، ونتملق الشريف والوضيع، ونلهث خلف كل ذاهب وآيب، ونجتهد في الطرح والشرح والتقريب والتطريب، ونواصل الليل بالنهار من أجل الإحاطة بالدائرة وسبر أغوارها، والحقّ أنّنا وجدنا من الناس إقبالاً كان متوقعاً، ولمسنا منهم رغبة كانت منتظرة؛ فكنّا وهم كالأحبة الذين فرقتهم الأسفار وتناءت بهم الديار، وحان اليوم التقاؤهم وطاب عناقهم، فكان هذا يطربنا ويرهبنا؛ فما ألذّ وأطيب الانسجام بين الأنام! وما أعزّ وأصعب تحقيق الحلم وبلوغ المرام!
وبينما نحن نخوض معركة سهلة ضد خصوم ضعاف مهازيل؛ قد قوضت الثورة كل ما شيدوه من الدجل والختل، إذ بواقعة تأتي على حين غرة؛ لتعترض طريقنا وتوقفنا جميعاً أمام اختبار صعب، كأنّ الله تعالى أبى إلا أن يضعنا بحكمته أمام هذا الاختبار ليبلونا أنصبر على النقمة أم نكفر بالنعمة؟! لقد احتدم الصراع بين أذرع النظام (البائد!) وبين بعض شباب الثورة في شارع “محمد محمود” بالقاهرة، وبدأ ميدان التحرير يغلي من جديد، ما هذا الذي يجري؟ أهي مؤامرة علينا لصرفنا عن طريقنا الذي توجهنا إليه بكل قوة وحققنا فيه نجاحات كبيرة، وصرنا قاب قوسين أو أدنى من الجلوس تحت قبة “المجلس الموقر”؟ أم إنّها مؤامرة على الثورة ذاتها لذبحها على أعتاب المسار السياسيّ الذي ذهبنا إليه سريعاً قبل أن تؤتي الثورة أُكلها وتستأصل شأفة عدونا وعدوها؟
كنت ممترددا بين السؤالين حتى حَسَمَ اجتماع حزبنا الوليد الرشيد (حزب الإصلاح) المسألة في اجتماع له بمقره الرئيسي بمدينة نصر؛ ليقرر في اليوم ذاته النزول إلى الميدان وليصدر بيانه بمناصرة الشباب وبالتحذير من الفخ الذي ينصبه المجلس العسكريّ للثورة وللشعب المصريّ كله، وإن كنّا لم نعلن الانسحاب من العملية الانتخابية؛ فالمشهد برغم ما اتضح لنا من معالمه لا يزال ضبابياً لا تتضح فيه الرؤية ولا تستبين فيه المقاصد.
وعلى كل حال فقد طويت هذه الصفحة، وما أسهل أن تطوى الصفحات لإنجاز الصفقات! هكذا كانت التيارات الشبابية بأغلب مكوناتها تتهم الكبار ولا سيما قيادات الإخوان المسلمين، كانت تتهمهم بأنّهم باعوا الشباب في “محمد محمود” من أجل الانتخابات البرلمانية، وبأنّهم دخلوا مع العسكر في صفقة تبدأ بالتخلي عن الثورة وتنتهي بالبرلمان الذي يهيمن عليه الإخوان؛ حتى شاع على ألسنة الكثيرين مقولة: “اثنين ما لهمش أمان العسكر والإخوان”.
والذي كنّا نعلمه عن الإخوان ولازلنا نُقِرُّ لهم به أنّهم ليسوا للخيانة أهلا ولا للغدر محلاً، والذي كنت أرجحه ولا زلت أميل إليه أنّه لم يكن ثمّ صفقات ولا مؤامرات، ولكن كان هناك – ولا يزال – شيءٌ آخر، وهو الثقة بالعدو والغفلة عن الوليّ، لقد نجح المجلس العسكريّ في أن يظفر من كل فريق بجلسات يغتلسها في الظلام، ثم بشيء من الثقة في وعوده، وليس الخطأ في مجرد الجلوس مع المجلس العسكريّ، ولا في الاستماع والإصغاء لوعوده؛ فإنّ هذا من مقتضيات السياسة التي تتمم عمل الثورة، وإنّما الخطأ كان يتمثل في الانفراد والانعزال، كان يجب على الجميع أن يرفضوا الجلوس إلا في العلن وبحضور جميع الأطراف وكافة الأطياف، هكذا تكون ممارسة السياسة في أعقاب ثورة ولاسيما مع بعض من ينتمون إلى النظام الذي قامت عليه الثورة أصلا.
لقد كانت أحداث “محمد محمود” اختبارا حقيقيا للجميع، اختباراً للوعي وللهمة، وللولاءات وفقه الأولويات، ولفهم الواقع وفقه الشريعة، ولئن كان البعض – وأنا منهم – يؤكد أنّ الضغط الذي مارسه الشباب في هذه المعركة كان سبباً في حماية العملية الانتخابية والمسار السياسيّ برمته من تلاعب العسكر وغدرهم؛ فإنّ الفرص التي فاتتنا وضاعت علينا جراء انصرافنا إلى أنجاز العملية الانتخابية كانت من الضخامة والفخامة بالحجم الذي كان من الممكن أن يقلب المعادلة التي أفضت اليوم إلى ما نحن فيه من الخسار والبوار.
ليس أدلّ على ذلك من أنّ العسكر صبيحة السبت التالي لمليونية أُسَر الشهداء قام بعمل غاية في الرعونة والغباء؛ حيث اندفع في سورة محمومة ليبغي على أسر الشهداء؛ فحفر بهذه الحركة الرعناء قبره بيده ووقف على شفيره وانتظر من يدفعه بأطراف أنامله ليلاقي حتفه ويلفظ في حفرة من الأرض وبرهة من الزمن أنفاسه الأخيرة، ولكنّ الأيدي انقبضت عمّا كان سيوفر عليها الامتداد تحت السيف الذي قطعها بعد ذلك وقطع معها كل أمل للتغيير.
وأيّاً ما كان الأمر فقد نجحنا بصورة أو بأخرى في معركة الانتخابات، وها نحن ندخل المجلس “الموقر” ونجلس تحت قبة البرلمان الذي سميناه: “برلمان الثورة” وما كان أحد يرد لنا تسمية، بل ولا قولاً؛ ما دمنا نقول وحسب!