الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل كان “برلمان الثورة” قادراً على تحقيق أحلام الثورة وآمال الثوار؟ هل كان بمكنته التخلص من سطوة المجلس العسكريّ والانطلاق بالبلاد إلى آفاق التغيير الحقيقيّ؟ سؤال تختلف الإجابة “الافتراضية” عليه باختلاف النظريات التي كانت سائدة آنذاك، وقد اشتهرت منها نظريتان، إحداهما تؤكد أن الخامس والعشرين من يناير كان ثورة بكل معاني الكلمة؛ ومن ثمّ فإنّ استعادة مسارها واستكمال مسيرتها أمر وارد بقوة وواجب بشدة، والأخرى – والتي كان يتبناها الأشياخ الحكماء! – أنّها لم تكن ثورة بالمعنى الحرفيّ الذي يترتب عليه إمكانية إناطة التغيير برياحها إذا هبت، وإنّما كانت هَبَّةً شعبية؛ هيأت الأوضاع لتغيير لا يتم إلا من خلال ترويض الأجهزة القديمة والاجتهاد في إيجاد صيغ للتغيير؛ تخرج بالبلاد من مضايق ومخاطر الميادين والشوارع إلى رحاب العمل السياسي والدبلوماسيّ المبدع الخلاق.
غير أنّني أفضل الخروج من هذه “الجدلية الافتراضية” إلى ما هو أرحب وأيسر، وهو النظرة الموضوعية، فلو أنّنا سلمنا بأنّها لم تكن ثورة بالمعنى الكامل، أو أنّها كانت ثورة لم تكتمل كما رجح البعض؛ ألم يكن بمقدور البرلمان أن يقود المسيرة إلى تغيير حقيقيّ؟ أليس الشائع المستقر رغم كل ما يقال هو أنّها ثورة وأنّ ما مضى صار نظاما بائداً؟ فلماذا لم نجعل القول حقيقة فنتولى قيادة مرحلة جديدة من الثورة بالطابع السياسي البرلمانيّ؟! لماذا نَتَهَيَّبُ بعد أن أماط الشعب عنّا هذا الشعور؟ ولماذا نفترض دائماً في عدونا قوة خارقة تنسينا قوتنا الحقيقية؟ نحن الهيئة السياسية الوحيدة التي لها شرعية مستمدة من انتخابات حقيقية، ولو أنّنا وَجّهْنا سفينة الأمة إلى حيث يتحقق لها الخلاص الحقيقيّ لتيسر لنا ذلك كله أو جُلُّه، وليس ذلك بدعاً من الحراك والعمل التغييريّ؛ فقد كان البرلمان الإنجليزيّ يقود الثورة الإنجليزية التي حررت الأمّة الإنجليزية قبل الثورة الفرنسية بقرن من الزمان، بل إنّ ميليشيات البرلمان بلغت من القوة حداً جعل الملك يبادر إلى الاستسلام؛ مما ترتب عليه استغناء لحظة الحسم عن رفع السلاح؛ الأمر الذي جعلها تشتهر في تاريخ الثورات بأنّها الثورة البيضاء!!
أنا لا أقول بأنّه كان يجب على البرلمان أن يقود ميليشيات، وإن كان هذا ليس عملا إرهابيا ولا تخريبياً؛ ما دام البرلمان له شرعية يمثل بها الأمة ويواجه بها أعداء ألداء، يرى بعينه الناقدة البصيرة أنّهم لا يقلون عداوة عن الاحتلال المباشر، لا أقول بذلك ولا أقصده؛ فالزمان يتغير وتتغير بتغيره الوسائل والآليات، وإنّما القصد هو أنّ البرلمان لو شاء يومها أن يواجه العدو الحقيقيّ للثورة وللأمة لفعل، ولكنّه لم يفعل لأنّه لم يشأ، ولأنّ مكوناته لم تنشأ على ذلك، ولو شاء البعض منهم لسفهتهم الأغلبية، فهذه ثقافتنا وهذا واقعنا، وما أبرئ نفسي.
فلنفارق هذه المساحة – إذاً – فلسنا للمواجهة أهلاً؛ وَمَنْ ذا الذي يمكن أن يناط به أمر كهذا؟ فأمّا الإخوان المسلمون فبرغم أهلية الكثيرين منهم كأفراد لهذا الواجب فإنّ هيئتهم البرلمانية لا يمكن أن تتخذ هذا المنحى الذي يُعَدّ عند الحكماء منهم انتحاريّاً بامتياز، وأمّا السلفيون فقد خرج أكثرهم من الولاء لمبارك إلى الولاء للمجلس العسكريّ؛ فهم يتلبطون أبداً في هذا المستنقع! وأمّا أعضاء الوفد فما كانوا ورَبِّ البيت إلا مسوخاً مشوهة من نواب الحزب الوطني (البائد!)، وأمّا الوجوه المدنية فهي – في أحسن حالاتها – صفيرٌ في الأبواق أو صريرٌ على أوراق.
ولقد دعاني يوماً بعض رموز المكونات الثورية لتبني فكرة مفادها وملخصها أن يتولى البرلمان قيادة المسيرة؛ وهم كفيلون بأن يعتصموا بالشعب حول سور البرلمان دعما له، وكان فيهم الدكتور “علاء الروبي” الذي كان يحاول مع فريق من العقلاء إيجاد مساحة تفاهم بين الشباب والبرلمان، فلم أجد – رغم إيماني الشديد بنظرتهم وطرحهم – ما يشجعني على الحديث في هذا الأمر.
لقد كان البرلمان بعيداً كل البعد عن روح الثورة وأنفاسها؛ لأسباب عديدة، أهما أنّ سياسة عمل البرلمان – والتي يتولى وضعها ورسم خطوطها الأغلبية – كانت تفترض حالة ليست موجودة إلا في الخيال، وهي أنّ مصر دولة وأنّ البرلمان مؤسسة من مؤسساتها يناط بها التشريع والرقابة وحل مشكلات الدائرة؛ فلا يَحْلُمَنَّ أحد بشيء أكثر من تفعيل “الْمَكْلَمَة” التي كان الجميع يتبارون فيها؛ إلى حدّ أنّ البعض لم يستح أن يعلنها صريحة: “أنا لم أتكلم منذ دخولي البرلمان؛ فماذا يقول عنّي أهل دائرتي؟!
وبالرغم من ذلك كله، وبغض النظر عن كل ما كان يحلم به الحالمون، فإنّ البرلمان كان بإمكانه أن يفعل الكثير دون أن يكون مبدعاً ولا خلاقاً ولا خارجا عن المألوف، وحتى هذا الكثير الذي هو بالقياس لما كان يُنْتظر قليل ضئيل لم يحدث منه شيء، فما الذي حدث إذاً؟ وما هي إنجازات ذلك البرلمان برلمان الثورة؟! لننظر..
لقد كان رئيس البرلمان رجلا فذّا عظيماً، وعلى المستوى الشخصيّ يُعَدُّ من أذكى وأنقى من أنجبت مصر، وهكذا كان الرئيس محمد مرسي بعد ذلك، وهكذا كان الكثيرون من كوادر الإخوان المسلمين، لكنَّ السياسات في مثل هذه الظروف لا يصنعها الأفراد، وإنّما تصنعها المكونات التي يتحكم فيها الحكماء الكبار، عبر الشورى التي اختلت قواعدها واضطربت آلياتها حتى صار من السهل على من عرف رأي هؤلاء الحكماء أن يتنبأ بالقرارات (الشورية!) قبل انفضاض المظروف السري للغاية!
لقد استطاع برلماننا في شهور قلائل أن ينتج جملة من القوانين الإصلاحية الرشيدة، لم يستطع أن ينتجها البرلمان المصريّ في عشرات السنين، لكنَّه أنتجها لتطوى مع ما طوي تحت أحذية العسكر المجرمين ومن معهم من أقطاب الدولة العميقة التي لم تجد من يتصدى لها ويكسر شوكتها، وعلى التوازي نجح برلمانيونا في ممارسة العمل الرقابيّ حيث كثفوا البيانات والاستجوابات وطلبات الإحاطة، لكنّها كانت رقابة على حكومة لا تحكم ووزارات ليست سوى إدارات لتسيير الأعمال بأمر العسكر، ثم قام المجلس النيابيّ النشيط جداً بمناقشة بيان الحكومة في جلسات استغرقت شهوراً، قامت فيها بجلد حكومة الجنزوري جلداً كضرب الميت الذي شبع موتاً.
هذه هي الأعمال التي قام بها البرلمان، وإنّها لكثيرة وكبيرة بالحجم الذي جعل موظفة في إحدى اللجان كانت تعمل في برلمان فتحي سرور في نفس وظيفتها تتعجب وتصرح بأنّها لم تشهد في عمرها الوظيفيّ المديد نشاطاً برلمانياً كهذا، لكن أين ذهب هذا كله؟ ذهب أدراج الرياح العاتية؛ لأنّنا لم ندرك حقيقة بسيطة، مفادها أنّ إدارة الصراع أهم من إدارة الدولة في مراحل ما بعد الثورات، ولقد انصرفنا في عهد البرلمان بكل قوتنا إلى الإتقان والإجادة في إدارة العمل البرلمانيّ كما يقول الكتاب، وغفلنا غفلة شديدة عن إدارة الصراع؛ فسهل على عجوز السوء “المحكمة الدستورية” هدم البنيان على من فيه!
وفي وقت مبكر جداً من انعقاد البرلمان بدأت حملات التشويه في إعلام الثورة المضادة، وقد لعبت قوى الشرّ هذا الدور عبر ثلاثة محاور، الأول: تَصَيُّد الأخطاء واستثمارها والتضخيم منها، وقد ساعدهم على ذلك نماذج خَرْقاء من السلفية التي توالت من قِبَلِها النّكَبات، فهذا عضو كان في الماضي سائقاً للميكروباص – وليس هذا عيبا في ذاته – واليوم يرى أنّه من اللازم أن يهذب أنفه! وهذا شأنه الخاص، لكنّ الهُمام أبى إلا أن يجمع على نفسه فضيحتين: التفاهة والكذب، فادعى أنّ رجالا خرجوا عليه في الطريق وضربوه وسرقوا منه مائة ألف جنيه (وهو نفس الرقم الذي طلبه منه الحزب لقاء نجاحه في الانتخابات!) ليخرج مدير المستشفى في اليوم التالي ويكذب الدعوى ويبين أنّ (معالي النائب!) مسجل في الدفاتر “عملية تجميل” ثمّ: “يا إعلام الثورة المضادة أكثر من الطبل والزمر”!!
ولم يكد الشهر الذي شهد تلك الواقعة السوداء التي جعلت من شخص كان مغمورا مطموراً عَلَماً على المستوى الدولي مُبَرَّزا مشهورا؛ لم يكد ينصرم حتى داهمتنا واقعة أخرى لسلفيّ آخر تضبطه الشرطة في وضع مخل بالآدب في سيارته الخاصة، مع فتاة ألقت إليه طُعما فعلق بسنارتها مثل (القرموط) الغفل! ثم: “يا إعلام مبارك أَقِم الدنيا ولا تُقْعِدْها” ومعك كامل الحقّ؛ أليس الرجل نائباً اختاره الشعب بعد ثورته، أليس رمزاً من الرموز الإسلامية التي اعترضت على القسم ورفضت أن تنطق ب(كلمة الكفر!).
هذا بعض ما ظهر، أمّا ما لم يظهر واجتهدنا نحن في علاجه مع التزفيف عليه فكان أكثر وأكثر، فوالله لقد اتصل بي خلق من دائرتي؛ ليشتكوا لي النائب الذي كان قبل ترشحه يمتهن الدجل ويستعمل السحر في التنقيب على الآثار في بيوت المغفلين، وكانت شكواهم أنّه استولى على أرض مملوكة للدولة بمدينة السادات وباعها لهم بعقود مزورة ثم تفاجأ الناس بأنّه باع لهم الوهم والسراب، وحاولت مراراً أن اقنع رفيقه ولَصِيقَهُ المدعو”صلاح عبد المعبود” بأن يأخذ على يديه؛ لكن الرجل كان مشغولا بمعركة “المادة الثانية من الدستور!” إذْ كان عضوا في لجنة المائة التي أخذ فيها كرسيا من حصة حزب (النور!)!
وذات يوم سارَرَنِي أحد النواب المحترمين الذين أثق بهم، وقد كان معي محاضرا بجامعة المدينة العالمية، وقال لي مهموماً: ماذا أفعل مع هذا الرجل؟ قلت له: هذا الوديع؟ قال أجل هذا الحمل الوديع؟ قلت ما شأنه؟ قال – وإنّه لصدوق – كلاماً أستحي أن أبوح به عن ذاك الذئب الذي يتوشح بفرو الحمل، والذي يحمل الدكتوراه في الشرعية الإسلامية!! وغيرها وغيرها من النماذج التي تجعل المرء يمشي بين الناس خافض الرأس وهو العزيز في أهله وأصحابه.
ذاك كان المحور الأول من محاور الحملة الإعلامية، أمّا المحور الثاني فكان يدور حوله لعبة غاية في السخافة والسماجة، كان يقوم بها بعض الدُّمَى المدنية التي لا يشبهها إلا عرائس المسرح الهزليّ التي تحركها خيوط خفية، أولئك الذين كانوا يمثلون علينا وعلى الناس ويقومون بدور باهت مفضوح، وهو دور المعارضة للعسكر والانتصار والانتصاف للثورة والثوار، ومن أجل إتقان هذا الدور وسبكه وسَّعَ لهم العسكر وغفروا لهم شتمهم وسبهم؛ ففي النهاية سيلتقي الجميع على غاية واحدة!
أمّا المحور الثالث فقد كان يتمثل في الاجتهاد وبذل الوسع والطاقة في تحميل آثام العسكر وحكومته للبرلمان، يعني للسلطة التشريعية الرقابية التي لا تمارس الأمور التنفيذية، والتي يناط بها في الأصل محاسبة الحكومة على ما تسببه للشعب من كوارث، وهكذا دارت رحى المعركة على البرلمان في وقت مبكر.