الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ما جرى بالأمس القريب من تلك القرية المشئومة لا علاقة له بطبيعة الشعب المصريّ، فالشعب المصريّ أكثر إنسانية من كثير من الشعوب التي تبهرنا إنسانيتها، لسبب غاية في البساطة والوضوح، وهو أنّ الإسلام بفعل – سلسلة من العوامل التاريخية والحضارية – تَرَسَّخ في أرض مصر، ومعلوم بالبداهة أنّ الإسلام بشريعته السمحة وتعاليمه التي تُعلي من شأن الإنسان والإنسانية هو المنبع الغَدِقُ والينبوع الصافي لكل معاني الشرف والنبل والإخاء؛ كيف لا وهو الدينُ القَيِّمُ! دينُ الفطرة والحنيفية السمحة!: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (الروم 30).
وهذه الخاصية – أعني تَرَسُّخ الإسلام في التربة المصرية – هي التي تَسْتَفزّ أعداء هذه الأمّة، وتَسْتَحِثُّهم ليواصلوا الضغط على أعصاب هذا الشعب بكل سبيل من سُبل الضغط، فهذا الشعب لا يجوز له أن ينعم بالحرية ولا أن يختار من يحكمه، بل يجب أن يبقى أبداً في أسر الاستبداد والقهر؛ وفي سبيل ذلك تُنْسَج المؤامرات على ثوراته من لدن ثورة عرابي، ثم ثورة 1919م، إلى ثورة الخامس والعشرين من يناير، وتُدَبَّر الانقلابات التي تغتال كل حركة رشيدة قبل أن تشب وتستوي على ساقها، ابتداء من انقلاب محمد على الذي أطاح بالحركة الوطنية العلمائية التي كان يتزعمها عمر مكرم، ومرورا بانقلاب يوليو الذي تم به الاغتيال الإجهاضي المبكر للحركة الوطنية ذات الصبغة الإسلامية، وانتهاء بانقلاب السيسي وعصابة العسكر.
وهذا الشعب لا يجوز له أن ينعم بالرفاهية والفراغ والثقافة، بل يجب أن يبقى دهره يَدُور في طاحونة السعي والكدّ على رغيف العيش الذي يصفو يوما ويكدر أياماً، وأن يمضي عمره يقاوم الفقر والجهل والمرض؛ وفي سبيل ذلك يتوالى على المناصب اللصوص الأشقياء والحمير الأغبياء، ويتبادل الأدوار في تسويغ الجوع إعلام يمارس التضليل والخداع ومؤسسات دينية رسمية تمارس الدجل والختل، وفي سبيل ذلك أيضاً يتم نهب كل الثروات من غاز وبترول وذهب، حتى النيل شريان الحياة.
فلا علاقة – إذاً – لهذه الواقعة النَّكِدَةِ بطبيعة الشعب المصريّ، إنّما لها علاقة وثيقة بما أطلق عليه “غوستاف لوبون”: (سيكلوجية الجماهير) وهي نظرية لاقَتْ قبولا واسعا عند الراضين عن “لوبون” والساخطين عليه على السواء، وفحواها: أنّ الجماهير لَدَى اجتماعها تتشكل لها شخصية منفصلة تمام الانفصال عن شخصيات الأفراد، تَتَّسم بسمات وخصائص لا علاقة لها بأخلاق الأفراد وصفاتهم، وهي حالة مؤقتة قطعاً، لكنها عظيمة التأثير في سير الأحداث، وهي لاتوصف بخير ولا شر إلا بحسب التحريض وعدوى الأفكار والمشاعر.
والأفراد المكونون للحالة الجماهيرية يصابون بداء الانخراط الحادّ في التبعية غير المنضبطة، حيث تتلاشي الشخصية الواعية وتهيمن الشخصية اللاوعية، ويتوجه الجميع ضمن خطة واحدة واتجاه واحد؛ بواسطة التحريض والعدوى للعواطف والأفكار، دورهم هو تحويل الأفكار الْمُحَرَّضِ عليها إلى فعل وممارسة مباشرة، وهكذا لا يعود الفرد هو نفسه، وإنّما يصبح عبارة عن إنسان آليّ، فما عادت إرادته بقادرة على أن تقوده([1]).
أمّا السمات الرئيسية لهذا لجمهور المنظم فأهمها: الخفة والنَّزَق وسرعة الانفعال، والسذاجة وسرعة التأثر، والتصديق لأي شيء، والاستبداد والتعصب، والأخلاقية المتعاكسة؛ فمع الأخلاق الهمجية توجد أخلاق البطولة والتفاني([2]).
لكن السؤال الجدير بالطرح: من المحرض؟ ما هي الجهة التي مارست التحريض على هذا النحو الهمجيّ البالغ من الانحطاط مبلغاً يبدو في البيئة المصرية نشازاً لا يطاق؟ وعلى التوازي يمضي سؤال آخر عن طبيعة الأفكار والمشاعر، التي سرت عدواها سريان فيرس كورونا في جماهير غبية متخلفة غير حذرة ولا محترزة؟! هذان سؤلان يتوجب علينا أن نجد لهما إجابة مقبولة حتى يصح حكمنا على هذه الحالة.
والواقع أنّ الإجابة على هذين السؤالين مَرَدُّها إلى فهم طبيعة الحياة الاجتماعية في ظل نظام بلغ المنتهى في أمرين مُتَلازمَيْن مُتَضامَّيْن؛ متلازمين تلازم الضباب وبُطء الذهاب والإياب، ومتضامين تضامّ الظلام وما تسري فيه من أشباح وأوهام، ألا وهما: الاستبداد والانحطاط الخلقي، فلا نكاد نرى لهذا النظام الذي يحكم مصر الآن شبيها في الاستبداد والقمع، ولا مثيلا في السفول والابتذال، وبيئةٌ كهذه تصلح لأنْ تتخلق فيها الأفكار الشاذة والمشاعر المنحرفة كما يتخلق الفيروس الفتّاك في البيئات القذرة، وتسري عدواها كسريان عدواه؛ بنفس الطريقة وذات القانون، ومن الوارد بقوة أن تنتقل من خفافيش وثعابين إلى بشر أنقياء وأناسيّ أسوياء، ولا ريب في ذلك ولا امتراء؛ فما أكثر الخفافيش البشرية والثعابين الأناسية! وما أشدّ افتتان الخلق بهم.
والتاريخ الإنسانيّ يحمل لنا الكثير من الأمثلة، فاستبداد فرعون واستعباده لبني إسرائيل وَفَّر بيئة كانت كافية لتحويل قوم – فُضِّلوا على أهل زمانهم بما كان معهم من بَقِيَّة إيمان وسط جاهلية مُطْبِقة – إلى مسوخ بشرية تتبع كل ناعق، حتى إنّهم عند ذهاب موسى إلى ميقات ربه استطاع السامريّ أن يستخفهم ويحملهم على عبادة العجل، وما استطاع الحليم هارون عليه السلام أن يردهم عن غيهم وهم في حالتهم الجماهيرية تلك؛ لتوفر عوامل تجييش الجماهير عبر التحريض وعدوى الأفكار الهدامة والمشاعر الهابطة، حتى رجع موسى عليه السلام، فما كان لَيُجْدِيَ معهم نفعاً؛ لولا ثورته العارمة التي علت أمواجُها فوق أمواج الجماهير الطائشة: (وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (الأعراف 150)، (وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا) (طه 97).
وسلوا التاريخ عن الطبائع التي ورثتها الجماهير المصرية إبان حكم ابن طولون وأمثاله من الجبابرة المستبدين، سلوه عن الطباع الشاذة والفعال الشاردة التي مُنِيَ بها المجتمع، وكان ذلك كله مؤقتاً، ثم عاد الشعب بعد زوال المحنة إلى طبيعته، وإن بمعالجة طالت أو قصرت، ولا يتسع المقام هنا لسرد القصص التي يندى لها الجبين ويقشعر لها جلد الجنين.
إنّنا نواجه نظاماً لو استمرّ وأخذ راحته واستقرّ لانتشر هذا الشذوذ انتشار الوباء في أرض لا طِبّ فيها ولا حكماء، ولَعَمَّ العطب وضرب بجرانه؛ حتى يتسع الخرق على الراقع ويستعصي الفتق على الراتق، فما لنا من سبيل إلا بذل الجهد في مقاومته، واستفراغ الوسع في دفع صائلته ورفع غائلته، ومواصلة الليل بالنهار في سبيل توعية الشعب وإنضاجه، من أجل ذلك يجب أن تتكاتف أقلامنا، ويتوحد خطابنا، وتصطفّ قلوبنا، وأن نخرج سريعا من حالة التشرذم؛ لأنّ الأمة في خطر وتنتظرنا؛ فهل نحن لها؟!
([1]) ر: سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون – ترجمة هاشم صالح – دار الساقي – ط أولى 1991م صـــــ 60
([2]) ر: سيكولوجية الجماهير – غوستاف لوبون – ترجمة هاشم صالح – دار الساقي – ط أولى 1991م صـــــ 63-80