عمرو أديب وإعلام “الرَّدْح!”

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..

“الرَّدْحُ والترديح” في كلام العرب يأتي في استعمالات مختلفة تدور كلها حول معنى البسط والإطالة والمكث الطويل؛ وفي اللغة العامية المصرية أخذ منحىً لا يبعد كثيرا عن ذلك المعنى اللغويّ، لكنّه يركزه في اتجاه واحد، وهو البسط والإطالة والإسهاب والإطناب في الملاسنة والمعارك الكلامية، غير أنّ المعنى بمرور الزمن اصطبغ بالصبغة الرديئة التي كان يقع عليها هذا “الردح” في الأحياء الشعبية الهابطة، حيث كانت النسوة – لطول فراغهن وتدني أخلاقهن وكثرة ما بينهن من ضغائن – يبالغن في تمطيط الكلام ودعم البيان بإيحاءات الجسد الذي يتجاوب كله مع هدير المعركة الكلامية.

    والردح فنّ يتقنه الأراذل من الرجال والنساء على السواء، ولطالما واجهنا ونحن نصلح بين الناس ونحكم بينهم في خلافاتهم نماذج تقترب في إتقانها لهذا الفنّ من “عمرو أديب” المذيع المصري الذي يُعَدّ في نخاسة الإعلاميين العرب هو الأغلى ثمناً والأكثر رواجاً، ولربما لو أوتي أحد هؤلاء البسطاء منصة إعلامية مع القليل من الثقافة في يوميات الأحداث ممزوجة بالكثير من “الكرافتات” المزركشة؛ لفاق كل هؤلاء الإعلاميين في فنون الردح والترديح.

    لكن على أي حال يبقى عمرو أديب “ردّاح” الميديا العربية الأول بلا منازع، حيث يستطيع بهذه الموهبة أن يقلب الكلام ويلونه ويتلاعب به تلاعب الساحر “بالبيضة والحجر” حتى يغدو صاحب الحق وفي عنقه من الحقوق للعباد ما يجعله “يؤثر النجاة بجلده” كما يقولون، ومن تابع حلقته التي علق فيها على اعتراضات وامتعاضات المصريين القادمين من الغربة على خلفية جائحة كرونا؛ بسبب ما لاقوه من سوء معاملة من أجهزة الدولة، يعلم ويتأكد كم هو حاذق في “الردح” وكم هو “بهلوان” يعزّ أن تجد له شبيها ولو بين القرود و”النسانيس”.

   وإذا كان هذا الكائن يتقن الردح إلى هذا الحد وبهذا المستوى من الابتذال والإسفاف؛ فهذا شأنه، وحسابه على الله، أمّا أن يكون هذا هو إعلامنا فلا طابت الحياة لنا إن نحن رضينا لأنفسنا أن نقتات ذلك “الطفح” الكريه الذي يتدفق كل مساء في قنوات الإعلام المصريّ، ولا خير في دنيا نجوم سمائها أمثال هذا “الرداحة” الذي لا فرق بين ما يقدمه وبين الرقص إلا أن هذا باللسان وذاك بالأبدان!

   وإذا كانت الأنظمة التي تحكمنا قد اختارت ذلك اللون من الإعلام فهذا شاهد يضاف لمئات الشواهد على أنّها أنظمة تستخف بشعوبها وتعاملها معاملة القطعان التي تساق بالناعق الذي ينعق بها، وإنّها والله لسوأة ليس تحت أديم السماء أقبح ولا أوقح منها أن يجلس خَلْقٌ سرق النظام أقواتهم وصادر حرياتهم وداس كرامتهم ليشاهدوا سحرة ذلك النظام وهم يلعبون بين يديه، وأن يمضوا ساعات أمام شاشات لا علم فيها ولا ثقافة، ولا مصداقية في أدائها ولا مهنية، ولا نفع فيما تقدمه بل ولا سلامة!!

    إنّ مقاطعة المصريين بكافة توجهاتهم وتنوع ثقافاتهم للإعلام المصريّ صار واجب الوقت الذي لا يقدم واجب عليه، ولا أبالغ إذا قلت إنّه واجب وطنيّ كبير، بل وواجب شرعيّ تحتمه الأصول العامّة لهذا الدين الذي جاء ليحرر الإنسان من أسر الطغيان، ويخضعه بهذا التحرر إلى الرحمن، وفي كتاب الله تعالى العديد من الآيات التي تعبر عن هذا الواجب بأساليب مختلفة ومن زوايا في البيان متعددة، من مثل هذه الآيات: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) (القصص 55) (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (الأنعام 68) (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) (التوبة 47) (وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المنافقون 4) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران 118)، وغيرها من الآيات.

    لا يكون الإعلام إعلاما إلا بتوافر عنصريّ المصداقية والمهنية، المصداقية في نقل الحقيقة وفي تناولها بالتحليل، والمهنية باتباع الأساليب والوسائل التي تستخلص بها الحقائق دون تعدّ على حقوق الناس وحرياتهم، ولا يكون إعلاماً حراً نزيها إلا بالاستقلال، الذي يجعل من الإعلام سلطة من السلطات، أمّا ذلك الذي نسمعه ونشاهده فليس إعلاماً ولا يمت للإعلام بأدنى صلة، إلا إذا قيدناه فسميناه إعلام الطغاة المستبدين، وهذا لا يلزمنا ولا يملك أحد أن يلزمنا به.

    إنّ إعراض الشعوب عن مثل هذا الإعلام بيان وإعلام من نوع فريد، إنّه بيان وإعلام صامت لكنه بليغ ومؤثر، ولعل هذا كان الهدف الأكبر من أوامر القرآن المتكررة في العهد المكيّ باتباع هذا اللون الفذّ من البيان: (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا).

    وإنّنا لن نتحرر من الطغيان حتى تتحرر عقولنا وقلوبنا من هذه الأوثان، والله وحده المستعان.