الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لم يأتِ ليحكم وإنّما جاء ليهدم، لم يأت السيسي ليحكم مصر، وإنّما جاء ليهدمها ويجرف ما بقي منها؛ ليمضي ويتركها خرابًا يبابًا! لا مكان فيها لزارع يزرع ولا لصانع أو مصنع، ولا وجود فيها لوطن أو مواطن، ولا قيمة فيها لأرض أو عرض، جاء ليعدمها مع من يعدم من أبنائها؛ ليذرها بلا حياة ولا أحياء؛ فلا نِيْلَ ولا ماء، ولا خبز ولا رُوَاء، ولا غذاء ولا دواء، ولا سلاح ولا جيش ولا أرض ولا سماء! ومِثْلُ هذا لا دوام له ولا بقاء، مِثْلُ هذا يرحل سريعاً، وإن تَصَوَّر أنّه يَعْتَاصُ على الرحيل والإفناء.
أمّا أنّه جاء ليهدم لا ليحكم فهي حقيقة ماثلة؛ وهل بقي في مصر شيء مما تعتز به لم تعبث به يداه؟! فهذا النيل العظيم شريان حياتها وفخر دهرها ومصدر سؤددها وعزها، أهدره وضيعه في لحظة عبر اتفاقية /إعلان المبادئ/؛ التي أعطت للأثيوبيين الحق في الاستمرار في البناء والاستدرار للقروض والاسثمارات، وهذه سيناء – تلك العروس الحسناء التي تمثل لمصر العمق الاستراتيجي والأمني – فقد دمّرها تدميرًا وعاث في أهلها قتلا وتهجيرًا؛ ليوفر الأمن لإسرائيل ويهيء المنطقة لصفقة القرن المنتظرة، وهذا جيل الثورة الذي كان لمصر أمل يتلألأ؛ قَتَلَ خيرته واغتال الحلم في قلوب بقيته، وهذا شعب مصر لم يزدد بحكمه إلا فقرًا وجهلًا ومرضًا وذلًا وقهرًا ويأساً، وهذه ثورة الشعب قد نَزَا عليها بحذائه ودَنَّسها بحسده وغبائه؛ حتى أيس الناس من أي تغيير، وصارت أقصى الأمانيّ لهم أن يعيشوا يوما من أيام الطاغية مبارك، وهذا الأزهر – رغم إذعان قياداته للظالم المجرم ومجاراتهم له – تحاك له الدسائس والمكائد ويتسلط عليه شذاذ الآفاق من كل غاد وعائد؛ فما الذي بقي لمصر وللمصريين؟! وهل يمكن بعد كل هذا أن يقال بأنّه جاء ليحكم؟!
صحيح أنّه يبني القصور ويشيد الاستراحات ويجمع المال والرجال، ويفكك الأجهزة ليعيد هيكلتها وتدويرها حول ذاته؛ وهذا سلوك من ينشد الخلود، ولكنه ينشد الخلود ليدوم عمله ويطول مكثه ويستمر في قيامه بوظيفته في التدمير والتخريب، ثم إنّه – قاتله الله – لا يملك أمر نفسه؛ فرغبته في الحكم وحبه له لا تعني أن الذين جاءوا به قصدوا غير التخريب والتدمير، فلا تكن متردداً في تصور الأمر على وجهه الصحيح؛ فإنّ خسارة المعركة تبدأ من الخطأ في التقدير، وتنتهي بالندم؛ ولات ساعة مندم! إنّ من يريد أن يحكم بلدا يسعى للحفاظ على مقدراتها ليبقى البلد الذي يحكمه بلدا يليق به وبحكمه، ولكم في محمد علي عبرة؛ حيث بنى مصر لتكون له ولأولاده من بعده، رغم فساد قصده وسوء نيته.
ولا يفعل السيسي هذا لأنّ أمّه يهودية، أو حتى صهيونية – وإن كنت لا أستبعد ذلك – فليس للهوية هنا أهمية كبيرة؛ فليكن عربيا من ربيعة أو مضر، أو ليكن ذا نسب ينتهي إلى عدنان أو قحطان، بل ليكن هو وبشار وحفتر وابن زايد وابن سلمان وأمثالهم من الأجلاف الغاشمين، هاشميين ذوي أنساب شريفة وأسانيد عالية رهيفة؛ فوالله الذي لا إله غيره إنّ الاحتلال الإنجليزي والفرنسي كان أرحم وأحكم وأحفظ وأصون للبلاد والعباد منهم أجمعين، بل لا يكون مبالغا من زعم أنّه لو حكمنا شيمون بيريز أو نتنياهو لكان أفضل منهم؛ فماذا تغني عنهم أنسابهم لو كان لهم أنساب – ولا أظنهم إلا زُنَمَاءَ ضائعين – إذا سئلوا عن الخراب الذي أحلوه بالبلاد والظلم الذي أوقعوه بالعباد؟!
إنّ غفلتنا عن هذه الحقيقة الكبيرة الخطيرة سببها النظر إلى الوضع المصريّ منفصلا ومبتوتاً عن المنطقة كلها وما يجري فيها، فإنّ ما يجري فيها هو قَلَمُ التقسيم – تقسيم المقسم – ورسم الخرائط الجديدة وإعادة الهيكلة للمنطقة كلها، وليست مصر بمركزها وموقعها المتميز استراتيجيا وجيوسياسيا بمنأى عن سن هذا القلم، بل إنّها في القلب من هذا المشروع الكبير الخطير، الذي بدأ على تؤدة مع الغزو الأمريكي للعراق، ثم استمر بعد الربيع العربيّ بروح مستفزة مستنفرة ليجتاح اليمن وسوريا وليبيا، أمّا مصر والسعودية فلهما شأن آخر، ولكل منهما سياسة تمهد للتقسيم؛ لذلك تتسارع الأحداث وتتوالى التطورات في كلا البلدين بما يؤكد قرب السقوط النهائيّ.
أمام وضع كهذا لا يمكن القول بأنّ حاكما كالسيسي جاء ليحكم ويستقر ويستمر، ولو كان هو يريد هذا ويشتهيه ويرتب له فإنّ أسياده الذين جاءوا بهم لهم ترتيب آخر، وأيا ما كان الوضع فإنّ مثل هذا حكمه عائم الجذور، ولا يمكن أن يكون له دوام أو بقاء، وسوف يذهب عاجلا لا آجلاً، ولولا أنّ سنة الله لا تتبدل ولا تتحول لقلنا إنّ بقاءه إلى الآن جاء على خلاف القوانين التي تحكم العمران البشريّ، إنّ أي حكم لا بدّ له من قواعد يستوي عليها وقوائم يقوم بها، أمّا النشاز فلا يأخذ حكم القاعدة وإن طال بعض الشئ.
حتما سيزول وينتهي إن بأيدينا أو بأيدي غيرنا، فليكن بأيدينا، ولنرتب لذلك بلا ملل ولا كلل، ولنرتب لما بعد السيسي؛ فإنّ النظر إلى الأمام يورث الإقدام، وإنّ الأمة على موعد مع الموجة الثانية لثورتها المجيدة، وها هي نسائمها غربية الهوية قد هبت من طرابلس؛ بنكهة أردوغانية تقول للمستضعفين في الأرض لا تيأسوا ولا تلينوا ولا تركنوا للهزيمة، فإنّ النصر قادم وإنّ الله غالب وإنّ مع العسر يسرا.
يجب أولا أن ننفض اليأس والخوف والشعور بالهزيمة، وأن نستحضر دائما قول الله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران 139)، ويجب ثانياً أن نلقن الناس العداء لهذا المجرم وطغمته، يجب أن تكون عداوتهم دينا يتدين به الناس في مصر، والعداء لأعداء الله المحاربين لدينه إيمان وشرط لصحة الإيمان؛ قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) (المجادلة 22)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ) (الممتحنة 1).
ويجب علينا ثانياً أن نقاطع إعلام الفتنة وندعو الناس إلى مقاطعته، وأن تكون هذه معركتنا في هذه المرحلة القصيرة القادمة، وأن نستفيد من كل جديد في التقنية الالكترونية لتطوير إعلام إسلاميّ ثوريّ هادف وفاعل، يخرج بالحقيقة من أقفاصها التي حبست فيها دهرًا طويلًا بلا فاعلية إلى دوائر أوسع وشرائح أعرض وأطول، وهذا ميدان تنفق فيه الأموال وتبذل فيه المهج والأرواح، وتطلب به الدرجات.
ويجب علينا ثالثاً أن نأخذ فيما يتعلق بتصوراتنا عن آليات ووسائب التغيير خطوة للوراء، نلتقط فيها أنفاسنا، ونراجع فيها أنفسنا، ونقرأ فيها تجارب غيرنا، ونسأل أهل الذكر في كل شأن يتعلق بها، ونشارك في رسم ملامح المشروع، وفي وضع الرؤية، وكل هذا قد تأخرنا فيه كثيرة، وهو عين ما أطلقت عليه في مقالات لي سابقة “الخطوة الأولى المنسية” وهي الخطوة التي إن لم نقم بها سيظل العدّاد يحسب علينا لا لنا، وسيظل سعينا كله ردود أفعال وقتية لا جدوى منها ولا ثمرة لها.
وقبل ذلك كله وبعده التوكل على الله تعالى: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق 3) (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران 160) مع الدعاء والاستغفار: (وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) ( آل عمران 147).