الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل تشعر بفارق بين السيسي وماكرون؟ إذا غضَضْتَ الطَّرفَ عن اختلاف الدولتين وتَبَايُن الشعبين وأثر هذا وذاك في سير الأحداث؛ فهل ترى فرقا بين الرجلين؟ هذا سؤال برغم انعدام أهميته يبدو مطلوبا ومُلِحّاً في السياق الحاليّ؛ فكلا الرجلين يستخف بحقوق الإنسان ولاسيما الإنسان المسلم، ويسيء استغلال الحرية المزيفة في إعلان الحرب على كل مقدس ولاسيما مقدسات المسلمين، ويتقن اللعب بالمصطلحات والمواقف من أجل الوصول إلى أهداف دنيئة والتنفيس عن أحقاد قميئة ولاسيما الأحقاد غير المبررة نحو أردوغان، ويُجَدِّفُ بحمق ونَزَق لا مثيل له في سبيل إزجاء أفكار خرقاء في عالم السياسة والحكم، ولاسيما الأفكار المتعلقة بهوس تجديد الدين الإسلاميّ وحده من بين كل الأديان.
هذه الأوصاف التي يتطابقان فيها ليست كل شيء؛ فهناك المواقف التي جمعتهما على غير ميعاد كعاشقين من أشأم الغربان، فهما معا ضد تركيا في الملف الليبي؛ برغم أن كلا منهما لا ناقة له في ليبيا ولا بعير، وهما معاً ضد تركيا في شرق المتوسط، برغم أنّ أحدهما ليس له فيه ولو بمقدار ما للضيف من متاع الدار، والآخر باع ما له فيها بلا درهم ولا دينار، وهما معا ضد تركيا في “كرباغ”، وليس لهما من غُرمها ولا غُنمها إلا كما للضباع من صيد السباع، ولا يعرف أحد من خلق الله تفسيرا لبغضهما لأردوغان والتقائهما على كرهه وعداوته إلا أنّها حالة من الحسد الأسود الذي لا يصدر إلا عمن يكرهون الكون وما فيه ومن فيه؛ لا لشيء إلا لضيق قلوبهم وعطن نفوسهم.
ماذا سيقول كل منهما للآخر؟ قد يتجاسر السيسي بعد أن يبلع ريقه مرارا ويجتهد في إخفاء مركبات النقص الطافحة على جميع أنحائه؛ فينصح ماكرون ويقدم له خبرته في مواجهة الاعتراض الشعبي والمظاهرات التي تملأ شوارع باريس؛ لترى أوربا لأول مرة في تاريخها المعاصر أطفالا ونساء يحاكمن بتهمة الإرهاب وليس في (الأحراز!) سوى (مساطر!) مرسوماً عليها تمثال الحرية مائلا أو برج إيفل مستقيما، وربما يتجه إلى العكس وليس ذلك عليه بغريب؛ فهو يملك القدرة الخارقة على اعتقاد الشيء وضده في جزء من الثانية، فربما يمارس بسماجة – لا تعدلها سماجة الجليد المختلط بطين الشوارع – ترتيل بنود المواثيق الدولية في الحقوق والحريات، هذا وذاك ليس غريبا عليه وعلى طباعه الأغرب من الأدغال، لكنّ الذي يغلب على الظنّ أنّ الهمّ الذي يغلب على السيسي هو تسول الشرعية واستمداد الأمداد.
وهل سَيُنْكِر عليه ماكرون انتهاكاته الصارخة لحقوق الإنسان؟ ربما ذلك يقع أو قليلٌ منه، لكنّه عادة لا يكون إلا لغاية واحدة تحقيقها سهل ومضمون: الابتزاز، مزيد من صفقات السلاح الخردة الذي لم يعد يصلح إلا للمقايضة مقابل الإقرار بشرعية من لا شرعية له، ومزيد من التسهيلات والامتيازات لفرنسا في المنطقة العربية التي يصول ويجول فيها بما يملك صفاقة؛ رجاءَ أن تعوضه عمّا قد يفوته على مائدة “جو بايدن” الذي لن يكون برغم صهيونيته محتضنا له كاحتضان “دونالد ترامب”، وأغلب الظنّ أنّ ماكرون لن يكون ضَنِينًا عليه؛ فهو الآخر يتسول الأصدقاء في ظرف أعطاه فيه الاتحاد الأوربي الظهر والقفا؛ مؤثرا المصالح الاستراتيجية لأوربا المتهاوية، تلك المصالح التي لا تٌكتسب بالنزق والطيش الماروني.
والذي لا يرتاب فيه واحد من ساكني المعمورة ولا يختلف عليه اثنان من قاطنيها أنّ الرجلين سينخرطان بكل حماسة وحرارة واندفاع في ملفين غاية في الحساسية والأهمية لكليهما، الأول: ملف تجديد الدين الإسلاميّ؛ بما يناسب أهواءهما التي لا نهاية لها، الثاني: ملاحقة أردوغان في كل فجّ يسلكه مهما بعدت به السبل في أرض الله الواسعة، أي أنّ الشعوب ومصالحها بمنأى عن اللقاء الحميم الذي سيختم عادة بالإعلان عن قيام (الزعيمين!) ببحث المصالح المشتركة للشعبين الشقيقين!
إنّها السياسة يا ساسة، لكنّها السياسة القذرة التي لم ترفع من المبادئ إلا شعارات، وبقدر ما يصلح مَطِيَّة لتقويض الآخرين وذريعة لمناوأة كل مخالف في العالمين، وتُكْأَةً لجمع الكلاب والذئاب بالنباح والصياح من أجل حصار هذا أو ذاك لإسقاط من لا يروق لهم ومن لا يتماهى مع أهوائهم، ولا يرعون من المصالح إلا بمقدار ما يمكن لهم في الحكم ويضمن فوزهم في الانتخابات، ويؤمن للرأسمالية الإمبريالية سبيل الاستحواذ على خيرات الأرض.
وإنّ السياسة في أصلها ليست إلا بذل الوسع في تحصيل المصالح وتكميلها ودفع المفاسد وتقليلها وترويض الخلق على ما فيه صلاح دينهم ودنياهم، وهذا عين ما يفعله أردوغان، ولكنَّ كثيرا من الناس لا يفقهون، وكثيرا منهم يفقهون ولا يعترفون، وكثيراً منهم في غفلة سادرون، فهل آن للشعوب المسلمة – ولاسيما الشعب التركي – أن تدرك أنّ في بلاد الإسلام تجربة رشيدة تحتاج لتكاتف الجهود من أجل إنجاحها؟ إنّ بيننا وبين الانفراجة الكبرى أن تخطو تركيا للأمام خطوة تقابلها خطوة تخطوها الآن أمريكا وأوربا إلى الخلف، وبعدها سيبدأ التحول الحضاريّ المرتقب من الجميع، ولعل هذا هو سبب الانزعاج.
أمّا تجديد الدين الإسلاميّ الذي يسعيان إليه فلن يقع على الوجه الذي يريدانه هما وغيرهما من المحاربين لله ورسوله، بل سيقع على الوجه الصحيح الذي يريده الله ورسوله، سيقع بأيدي العلماء المخلصين والمجتهدين المبصرين، وسيكون التجديد بعثا للفكر الإسلاميّ الأصيل؛ ليتحقق البعث الكبير للأمة في عصرها الحاضر، لتنجلي الغمة وتنفرج الكربة وتنطلق مسيرة النهضة الإسلامية بإذن الله.
وسيعود السيسي من زيارته بخفي حنين؛ لأنّ وكيله الجديد لا يملك أن يحقق له ما يريد، سيعود ويترك ماكرون يواجه شعبه الثائر؛ فهل سَيُطبق مع شعبه استراتيجية عبد الفتاح؛ ليحل النحس ويعم الوكس؟ أم ستنجلي الأيام المقبلة عن مفاجآت لم تكن في حسبان (الزعيمين!)؟ الله وحده هو الذي يعلم، والله من وراء ما يمكرون محيط، وهو مولانا ونعم النصير.