الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليست هذه هي المرة الأولى – ويغفر الله لي – التي أدخل فيها الصلاة ثم أخرجُ ولم أعقلْ منها إلا القليل، فإنّني اليوم بمجرد دخولي في صلاة الفجر تفجّرت في عقلي خاطرة لم تلبث إلا قليلاً حتى تحولت إلى همٍّ كبير، سرى في كياني وتمدد في أرجاء نفسي وأقطار وجداني، قد يكون السبب في هذا التداعي السريع المفاجئ أنّني كنت في غفلة عن الظاهرة وأبعادها؛ ربما لطول الإلف أو لهول ما حلّ بنا فجعلنا نتعامل مع الظواهر الشاذة على أنّها من الأمور المعتادة: لماذا وإلى متى هذا التباعد بين المصلين؟
ثم بعد انتهاء الصلاة توالت التساؤلات في سلسلة تَتَابَعَتْ حلقاتها كَتَتَابُعِ حبّات المسبحة في يد رجل عن يساري كنت على هامش الشعور أغبطه لتأنّقه في الصلاة على سجادة أنيقه كأنّما هو وهي يحتفلان بهذا الاستقلال، تساءلت: ما الفرق بين هذه الحالة التي فُرِضَتْ علينا وبين حالة افْتَرَضْتُها في الخيال، وهي أن يتفق المصلون ويتواضعوا على أن يصلوا هكذا متباعدين؛ فلا يتأذّى بعضهم ببعض، ولا يحرم المرء منهم لذة الحرية في التحرك والسكون والتمدد والانكماش والرفع والخفض، وفي النهاية المصلون جميعا إلى قبلة واحدة متجهون، ولرب واحد عابدون.
الحقيقة أنّني لم أجد فرقًا بين الحالين، وأيقنت أنّنا – من جهة الأسباب – أصحاب هذا الفعل وصانعوه وناسجوه وزارعوه ومنتجوه؛ فإن كنت في شكٍّ من قولي فانظر إلينا في كل ميدان نحن فيه، وأرني موضعًا واحدًا تلاصقنا فيه – على اختلاف الرؤى والآراء – تلاصُقَ المصلين في الجماعة: القدم بالقدم والكتف بالكتف، ذلك المشهد العبقريّ الفذّ الذي يرمز إلى التلاحم وتماسك البناء!
هذه “الجروبات” التي تسبح في بحر “الواتساب” – على كثرتها وتشتتها كأنّها قوارب صيد تتعادى وتتعاوى في “مَلَّاحة” بائرة أو مسنتنقع مجهول – أرني “جروبًا” واحدًا منها يتلاصق الناس فيه ويصطفون حول هدف واحد ووجهة واحدة، إنّ كل مَنْ في هذه المجموعات مفكرون أصحاب مشاريع، الكل يكتب ولا أحد يقرأ لأحد، كأنّهم لاعبوا كرة نزلوا “المستطيل الأخضر”، مع كل واحد منهم كرة وصافرة، وكل واحد منهم يحرز الهدف ويطلق الصافرة، ثم لم تلبث الجماهير التي ليس لها إلا الاستمتاع بالأهداف والإنصات للصفير أن نزلت هي الأخرى إلى ذلك المستطيل “الأخطر!” الذي كلما ضاق اتسع وكلما اتسع ضاق!!
هذه الحالة التي نراها في “جروب” ألكتروني أضيق في حقيقته من قطر الشعاع هي ذات الحالة التي تعيشها الأمة الإسلامة في عالمها الرحيب وفضائها الواسع، فما من تجمع “جروب حيّ!” إلا وترى الناس متحسسين متقززين لا يطيق بعضهم بعضا ولا يقبل بعضهم لبعض رأيا ولا قولا، وصار كل فرد في ذاته مشروع أمّة، حتى مشروع الوحدة صار مشاريع تختلف الأنظار في كل تفاصيله من الأهداف والقيم والمبادئ إلى الوسائل والأساليب الآليات، ولا تكاد تنشأ لنا هيئة إلا وتنشأ بمحاذاتها هيئات، ولا تنعقد لنا رابطة إلا وتنعقد على القرب منها روابط، والكلّ يدعي وصلا ب (الأمة – المسلمين – الجماعة – السنة)، وليس بعيدا أن ترى عن قريب: رابطة لكل مواطن! وهيئة “عالمية” لكل نسمة من المسلمين!
لا زلت أذكر تجربة “الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح” تلك التي أُنشئت لتكون بمثابة “أهل الحل والعقد” في القطر المصريّ، وبرغم أنّها لم ترتق في طريقة تأسيسها وفي أسلوب أدائها إلى هذا المستوى تبقى نقطة تَجَمُّع لأهل العلم والفضل في الأمة، ما إن نشأت هذه الهيئة واستوت على ساقها حتى وجدنا أعضاء من نفس هذه الهيئة مع آخرين يؤسسون كيانًا آخر موازيًا له سموه – تقريبًا – “مجلس شورى العلماء!” أو شيئًا قريبًا من هذا – ولا مشاحة في أسماء براقة لمكونات تافهة مدخولة – والأعجب من ذلك أننا وجدنا أعضاء لامعين بالهيئة الشرعية الأصلية بمجرد الإعلان عن هيئة “الضِّرار” تلك يسارعون إلى حجز مكان لهم فيها، هذا إن لم يكن لهم أيضا دور في تأسيسها؛ إذْ دائما ما خفي كان أعظم مما بدا وظهر!
قد يراها حريةً من لا يرى التهارج والتهارش على “الجروبات” إلا ظاهرة صحية، لكنْ والذي أنزل الفرقان وعلم البيان ما هذه بحرية ولا تلك ظاهرة صحية، إن هي إلا العبودية تقهر الناس وتأطرهم أطرا على السير في مسارات متعاكسة ودوائر متشاكسة، كلما تآكل مسار أو تهتكت دائرة تولدت من ذراتها مئات المسارات وآلاف الدوائر، التي تسبح في فضاء الأهواء بلا نظام ولا انسجام.
أجل والله إنّها العبودية، وإنّنا في مسارتها ودوائرها أرقاء أقنان، وإنّنا وإن كنّا قد شممنا ريح الحرية التي هبت مع رياح الربيع العربيّ مُسْتَرَقُّون لما غرسه العدو في قلوبنا من الأوهام، فإيماننا العميق بالجماعة يقابله إيمان أعمق باستحالة تحققها في الواقع، واعتقادنا الوثيق بأنّ الإسلام رسالة عالمية يقابله اعتقاد أوثق منه بأنّنا لن تقوم لنا قائمة إلا بمنقذ غائب في سامراء الأحلام والأوهام، وتسليمنا بضرورة الشورى والتحاور البنّاء يقابله استسلام لواقع الاستبداد بالرأي الذي قد يتخذ لنفسه سبيلا عبر عملية شورية صورية كتلك التي ثارت عليها شعوبنا؛ ومن ثمّ صرنا نعتمد قاعدة معاكسة للعقل والفطرة ومرضية لليائسين البائسين، تقول: “ما لا يدرك كله يترك كله!”، فليكن كل امرئ منّا هو الجماعة حتى تظهر الجماعة، ولم لا؟! ألم يكن “أبو حمزة السكري جماعة”؟!، وقس على ذلك في كل ما عرضنا من الأمثلة وما لم ننتعرض له مما تغصّ به ساحتنا، أليست هذه عبودية تدور في فلكها العقول والضمائر؟ أليس هذا رقّا ترسف في أغلاله القلوب والمشاعر؟!
لم أتحدث عن الاسترقاق الذي يمارسه الكفيل على العميل، أو على مشروع العميل، ولن أتحدث عنه؛ لأنّني لا زلت أخاطب من أرى فيهم أملا، أمّا الذين لا أمل فيهم فلا يصل إليهم خطاب ولا يبلغهم كتاب، ونسأل الله أن يعافينا من هذا البلاء نحن وسائر الأحباب، وكذلك لم ولن أتحدث عن الأهواء التي تصنع اليوم ما تشاء؛ لأنّني أظن فيمن أخاطبهم أنّهم من تلك الأهواء أنقياء.
وقد كنت وعدت في ذيل مقالي السابق: “حاجتنا إلى التحرر الذاتيّ” أن أتبعه بآخر، وقد شرعت فيه بالفعل، لكنّني أوقفته، وأزجيت هذه الخاطرة بين السابق واللاحق، فإذا كان في العمر بقية أردفنا على المقدمة مؤخرتها إن شاء الله، وإلا فالرجاء في رحمة الله كبير.
وأخيرًا فإنّي لا أستبيح ذلك الذي وقع منّي ويتكرر كثيرًا – وقاتل الله الشيطان – وأستغفر الله وأتوب إليه من استمراء ترك الخشوع والحضور في الصلاة، وأُذَكِّرُ نفسي والقراءَ الكرام بقول الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) (الحديد: 16).