الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
بين الضرورة والاضطرار تغيب الرؤية – فيما يسمى بالمراجعات – خلف سحب كثيفة من التصورات المتداخلة المتشابكة، فالمراجعات في أصلها عملية ضرورية، تضطرنا إليها في كل مرحلة مقتضياتُ الواقع المتجدد، وهي آلة من آلات تقييم الأعمال وتقويمها، وأداة من أدوات التطوير والتنوير، ووسيلة من وسائل التجديد للرؤى والأفكار والمفاهيم، وأسلوب قديم جديد تتبعة كل طائفة من الناس تبتغي ترقية أدائها وتجويد مشاريعها باستمرار، وقد علمناه كتاب الله تعالى يوم أن وقف مع الجيل الأول بعد أحداث أحد، وأوقفه على كثير مما يجب تصحيحه من الأفكار والتصورات والأقوال والأفعال والعلاقات والتفاعلات.
ونحن الآن أكثر من أيّ ظرف مضى بحاجة إلى المراجعات، ونحن اليوم أكثر من أي يوم مضى صرنا نؤمن بأهميتها وضرورتها، بل صرنا بالفعل نمارس المراجعات بشكل واسع وشامل، وربما بعنف وعجلة، بل ورعونة أحيانا؛ ولعل السبب في هذه الخشونة والرعونة وهذه الانقلابات المتتابعة كتداعيات الزلازل هو أننا لا نمارس عملية المراجعة من منطلقات منهجية ثابتة، ولا بمعايير قيمية واضحة، وإنّما نمارسها كردة فعل ضد كل قديم كان في تقديرنا سببا للبلاء، ولو أنّ المسلمين الأوائل قاموا بعد أحداث أحد بالمراجعة على النحو الذي يقوم به الكثيرون منّا الآن؛ لربما وجدت منهم من يقول: مالنا نحن الأنصار وخصومة وقعت بين قريش وبعض أبناها؟ ألم يكن جديرا بنا أن نلتزم الحياد كما فعلت سائر قبائل العرب ويبقى الفارق بيننا وبينهم أننا مؤمنون موحدون وهم كفار مشركون؟ ولوجدت منهم من يعيد تقييم قرارات وخطط المعركة بما فيها قرار الخروج للقاء العدو خارج المدينة، ذلك القرار الذي اتبع فيه محمد مشورة غلمان لا علم لهم بالحرب، وترك رأي الكبار من أمثال عبد الله بن أبيّ بن سلول، ولوجدت من الآراء عجباً.
لكنّ الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم كانوا يمتلكون منظومة من القيم الثابتة والمحكمات الراسية التي تجعلهم قادرين على إجراء المراجعات بصورة لا يكون فيها انقلاب على الثوابت أو كفر بالماضي كله حلوه ومره، ومع ذلك وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يمارس التثبيت والتربيت ويلقنهم الثوابت، فعندما صاح أبو سفيان: أٌعل هبل! لقنهم الرسول الجواب: الله أعلى وأجل، وعندما صاح: يوم بيوم بدر والحرب سجال! لقنهم رسول الله: لسنا سواء؛ قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.
ثم نزل القرآن الكريم ليجري عملية المراجعة مع المؤمنين، وليؤكد على الثوابت وهو يجري عملية التقويم والمراجعة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم سبب للنعماء لا مصدر للبلاء: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (آل عمران: 164) والمؤمنون هم الأعلون وإن هزموا أو فقدوا بعض ما في أيديهم من اللمكاسب، فالنصر لا يرفع وضيعا والهزيمة لا تخفض رفيعا: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139) والخُسر ليس متمحضا لمعسكر الإيمان، والأيامُ دُوَلٌ، والذين قتلوا في سبيل الله تعالى ليسوا خسارة للمؤمنين وإنما هم مقدمة للنصر القادم: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)) (آل عمران: 140-141).
والمراجعات الحقيقية هي التي تكون اعتبارا لا اضطرارا، وغالب ما رأيناه من المراجعات في المحيط الإسلاميّ يأتي اضطرارا لا اعتبارا، والاضطرار يأتي على وجوه عديدة، فتارة تقع المراجعة تحت الإكراه الذي تمارسه الأنظمة بأي صورة من الصور، وكل مراجعة تقوم بها الرموز تحت وطأة الأكراه تكون مراجعة اضطرار، وللضرورة أحكامها الاستثنائية التي لا يمكن أن تُعَمَّمَ لتصبح قاعدة مضطردة، وتارة تقع تحت وطأة الصدمة وما تورثه للنفس من فجيعة في الأموال والأنفس والاستحقاقات وغيرها، وتارة تأتي كردة فعل تجاه أقوام أو زعامات ارتكبوا الأخطاء الجسيمة في اتجاه معين فينشأ غلو في الاتجاه المقابل.
أنا لا ألوم أحدا ممن أكرهوا على المراجعات ولا أجترئ على ذلك، فمن يدري فلربما – ونسأل الله العافية لنا وللجميع – لو كنت مكان واحد منهم لكنت أضعف منه نفسا، لكنّ هذا لا يغير من الحقيقة الكلية المجردة شيئاً، فالذين اضطروا لإجراء مراجعة تحت الضغوط أو التنازل عن شيء من الحق تحت وطأة الإكراه معذورون، لكنّ قولهم مهدر لا حجة فيه على غيرهم، فيجب عذرهم من جهة وأهدار مراجعاتهم من جهة أخرى، ونحن إذ نعذرهم لا ننسى أسيادنا الصامدين الثابتين في قيعان الزنازين، فهؤلاء اختاروا العزيمة وتجافوا عن الرخصة وآثروا صيانة حفظ الدين على حفظ النفس؛ فلا ريب أنّ موقف سيدنا بلال أفضل بكثير من موقف سيدنا عمار، وكلهم أسيادنا.
وكذلك لا ألوم على الذين أزعجتهم المصائب واستفزتهم النوائب فانقلبوا على كثير أو قليل من الثوابت التي ظنوها سببا فيما حل بالأمة، فالعقل الإنسانيّ أمام فوران النفس وهيجان المشاعر كالكوخ المسكين في برؤرة زلال مدمر، والمعصوم من عصمه الله، ولا على الذين اضطرهم قوم غلوا في اتجاه معين على أن يرتدوا هم إلى الاتجاه المقابل بنفس الدرجة في الغلو؛ فالقانون الطبيعي الذي لا يستثني: كل فعل له ود فعل مساو له في المقدار مضاد له في الاتجاه.
لكنني ألوم مجموعنا الذي لا يصح ولا يسوغ أن يستنكف جملة عن المراجعة الصحيحة الرشيدة التي تكون اعتبارا لا اضطرارا، والتي تجري وفق قيم ومعايير وموازين صحيحة، والتي تُجيش لأجلها الطاقات والمواهب المتخصصة، وتُحشد لها البيانات والمعلومات الموثقة، وتُستدعى لها السنن والنواميس الحاكمة للحياة، وتبذل فيها الجهود المتضافرة والأوقات المتوافرة، المراجعة الدقيقة العميقة التي تتبع الأساليب العلمية في التفكير والوسائل المنهجية في التقويم، التي تتجرد من كل مشاعر الغضب والحنق والرجاء والخوف وغير ذلك مما يشوش على المقاصد كما تشوش الغيوم على أشعة الشمس الساطعة.
هذه المراجعات في زماننا هذا كالماء في زمن الجفاف والخبز مع اللحم في زمن المجاعة والمسغبة، مع أنّنا لم نكن في يوم من أيامنا أحوج إليها من يومنا هذا، محتاج إلى تقييم صحيح لكل تصرفاتنا؛ لأنّ ما حل بنا لا يمكن – حسب سنة الله في المؤمين – أن يكون قد وقع لمجرد أخطاء تكتيكية أو جزئية أو صغيرة، لا يمكن أن يون قد وقع إلا بسبب أخطاء منهجية كلية كبيرة؛ فالمراجعة – إذاً – واجب محتم.
هذه المراجعات التي يجب أن تجري اعتبارا لا اضطرارا هي مقدمة للخطوة الأولى المنسية أو المهملة أو المتروكة عن غفلة أو عمد، وهي وضع الرؤية والمشروع، الرؤية التي تكون لنا جميعا بمثابة البوصلة التي تحدد اتجاه السير، والمشروع الذي ينقل خطانا على الطريق عبر مراحل مدروسة ووفق قيم وموازين متفق عليها في الجملة، فالمراجعات ووضع الرؤية ورسم ملامح المشروع أول عدة التغيير الذي ننشده، فإن عجزنا عن هذه اللاثة فنحن عمّا وراءها وبعدها أعجز.
ولنكن على يقين من حقيقة لم تعد خافية وإن تجاهلها البعض، وهي أنّ فعلا كهذا يحتاج بذلا وإخلاصا وتجردا وتوحدا وتواضعا وميلا للجماعة ونزوعا إلى الوحدة وهجرا لكل أسباب الفرقة والعصبية والنزاع، وقبل ذلك يحتاج إلى الاستضاءة بالوحي المعصوم، والتماس العبرة من سيرة سيد المرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والله المستعان وعليه التكلان.