الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
بالأمس صعد إلى الله سبعة عشر شهيدا من كرداسة العزّ، واليوم هم في ربوع الجنة ورياضها يسرحون ويمرحون، منذ اللحظة التي صعدت فيها أرواحهم الطاهرة إلى باريها حلت في حواصل طير خضر تسرح في ربوع الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة في ساق العرش، وليس ثَمّ ما هو أدعى للثقة والتصديق من خبر السماء: قال تعالى في آيات من القرآن الكريم تُتْلى: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)) (آل عمران: 169-171).
لماذا هم شهداء؟ وما معنى هذا وما دلالاته؟ وما آثار هذا وما تداعياته؟ هذه أسئلة تطرح نفسها على العقل الباطن لكل عاقل من الأحياء، أجل .. لماذا هم شهداء؟ ما الذي استحقوا به الشهادة؟ بأيّ عمل نالوا هذه المرتبة العظيمة التي تستشرفها وتتطلع إليها كل القلوب المخلصة والأنفس الذكية؟ ألأنهم قتلوا ظلما؟ أو أعدموا في محاكمات هزلية؟ أو أٌخذوا بجريرة غيرهم وهم أبرياء؟ إنّ رتبة الشهادة الكبرى التي ينالها شهيد المعركة وقتيل الجهاد شيء كبير وأمر جد خطير؛ فهل خاض هؤلاء جهاداً إسلامياً مقدسا ضدّ عدو محارب لله ورسوله؟
وبرغم براءة السبعة عشر شهيدا من كل ما نسب إليهم من التُّهم الباطلة، ككل الشهداء الذين سبقوهم، وبرغم سلامة صحائفهم من الخوض في دماء معصومي الدم من المسلمين ككل الذين رفعوا قبلهم من الشهداء، وبرغم أنّهم ومن سبقوهم لم يكونوا إلا مواطنين صالحين محبين لأوطانهم حريصين على أمن وسلامة مجتمعهم، ولم يكونوا يوما محاربين للمجتمع ولا خارجين على الأمة، برغم ذلك كله فهم مجاهدون مقاتلون؛ خاضوا معركتهم مع نظام محارب لله ورسوله خارج على المجتمع المصري المسلم، كانوا مجاهدين مقاتلين بالكلمة والدعوة، وبالقرآن والبيان، وبمواجهة النظام المجرم المحادد لله ورسوله المشاقق لدين الله وشرعه، كانوا يواجهون هذا النظام الذي يجب على الأمة كلها مواجهته؛ فقاموا بالواجب الكفائي الذي لو كان قد تحققت الكفاية بقيامهم به لرفع الإثم عنّا جميعا، كانوا يواجهونه بالتظاهر ضده والاعتصام في الشوارع والميادين رغم أنفه، والإنكار عليه بما تيسر لهم من وسائل الإنكار، والنكاية فيه بكل وسيلة شرعية تستمد شرعيتها من منهج الله وشرعه، دون تورط في دماء معصومة؛ فهؤلاء بلا ريب شهداء، بل إنّهم من سادة الشهداء؛ لأنّ كل واحد منهم وممن سبقوهم من شهدائنا هو الرجل الثاني بجوار حمزة في الحديث الصحيح: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر أمره ونهاه فقتله).
ولهذه الحقيقة الكبيرة المنيرة دلالاتها القوية النافذة، فهؤلاء الشهداء شهود بما وقع لهم وما نزل بهم جرّاء نضالهم الشريف وجهادهم العفيف، شهود على واقع الأمة وحالها، شهود على حكام فجرة محاربين لله ورسوله ودينه وشرعه، خارجين على الأمة وعلى دينها وعقيدتها وهويتها، شهود عليهم بأنّهم استأهلوا الخلع والعقاب والقصاص العادل، وصار على الأمة واجب كبير أن تتحرك للإطاحة بهم واستبدالهم بحكام ينتمون للأمة ويدينون بدينها وينتسبون لهويتها وثقافتها وتاريخها.
وهم كذلك شهود على علماء رضوا بأن يلوذوا بمسائل من العلم والبيان تبقيهم دائما في المنطقة الآمنة، وتحفظ لهم حظوظهم من العيش تحت سقف الأنظمة؛ تارة باسم الحفاظ على مصلحة الدعوة، وتارة أخرى باسم الإبقاء على الأزهر والمؤسسات الدينية، وأحيانا كثيرة ترخصا ودخولا في أحكام الاضطرار بمحض الاختيار! الأمر الذي ترك الساحة على مصراعيها للعبث الإعلاميّ والفنيّ الهابط؛ ليغري بمزيد من الدماء، ويشيع الفتنة، ويقسم المجتمع على قاعدة (إحنا شعب وهُمَّا شعب) ويكرس الشره والتعطش للانتقام من خلال الدجل الهابط في مسلسل الاختيار (2) وما شابهه.
وشهود على شعب رضي بالذل واستكان للجلاد وطأطأ رأسه للطاغية، شهود على جمهور يساق بالإعلام والإرغام، لا يرى إلا ما يريه له الفرعون، ولا يتطلع إلى الحرية بقدر ما يتطلع إلى ملء معدته من الخبز وخلو باله من الفكر، شهود عليه بأنّه بتفريطه في حريته فرط في حق دينه وحقوق أمته، وباستسلامه للطاغوت سلم نسله وذريته للهلاك والبوار، وبإعراضه عن الثورة والجهاد ساهم في استقرار الفتنة واستفحال سلطانها، وبتغافله وتجاهله لحقوقه الطبيعية الفطرية الشرعية ضيع وأهدر حقوق الأجيال القادمة إلى عقود عديدة وأزمان مديدة.
وشهود على قيادات وزعامات نسبت نفسها للثورة والتغيير بحق أو بباطل، ومعارضة باهتة اتخذت لنفسها من الرتابة والملالة منهجا ثابتا؛ فلم تحسن من العمل الثوريّ إلا الجدل واللجاج، ولم تتقن من الجهاد إلا الخصومة والّلدد والعناد، مرت السنون تلو السنون ولا نجد رؤية واضحة ولا مشروعا راشدا ولا خطة عملية سديدة رشيدة، فالشهداء شهود عليها بأنّها إن لم تستفق فسوف يبتلعها النسيان ويهضمها تجاهل الزمان، وتؤول في نهاية أمرها إلى ما يشبه الأعشاب الصحراوية النابتة على جنبات طريق تعس طويل؛ لا ظل لها ولا نفع فيها لإنسان أو لأي ذات كبد رطبة.
إنّ دماء هؤلاء الشهداء وغيرهم ممن سبقوهم على درب الشهادة لا يمكن أن تذهب هدرا، وليس من سنة الله أن تذهب هدراً؛ فإمّا يستفيق المسلمون فيكون اتخاذ اللهِ للشهداء مقدمة لمحق الكافرين بأيدي المؤمنين، وإمّا الأخرى فيكون التيه الذي يضرب على الناس، ويسلط الله على رقابهم أولئك المجرمين، ثم تمضي على المجرمين سنة الإملاء ليأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر.
وسيكتب التاريخ يوما عن كرداسة كما كتب من قبل عن دنشواي، رحم الله شهداءنا رحمة واسعة وأسكنهم الفردوس الأعلى في الجنة، وانتقم ممن ظلمهم وقتلهم.