الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
هل انتصرت المقاومة الفلسطينية بالفعل؟ أم إنّنا نمارس حالة عامة من “جبر الخواطر المنكسرة” وترضية النفوس التي طال أمد تعاستها ويأسها وقنوطها؟ هل يُعَدُّ انتصارا مجرد إطلاق حزمة من الصواريخ البدائية وعلى أثرها فرقة غير متسقة من المسيرات العشوائية؛ يعلم القاصي والداني أنّها – وإن كانت مرشحة في المستقبل للازدياد والتطور – لن تستطيع مواجهة الترسانة العسكرية الجبارة لأقوى جيش على الإطلاق في المنطقة، تملكه أقوى دولة في الشرق الأوسط سياسة واقتصادا وتخطيطا، مدعومة من قوى عالمية كبرى عملاقة، ومن نظام دولي بلغ النهاية وأوفى على الغاية في التواطؤ مع المشروع الصهيونيّ؟!
ما حقيقة ما جرى؟ وإلى أي مستوى يرتقي إن ارتقى؟ هل يمكن تقديم تقييم رقميّ وحساب منطقيّ نستطيع من خلاله قياس مدى تحقيق الأهداف في ضوء النتائج على الأرض؟ كم عدد الذين قتلوا من هؤلاء وهؤلاء، وما حجم الخسائر هنا وهناك؟ وإلى أيّ حدّ يمكن أن تصمد كل من القوتين أمام الأخرى؟ وكم يبلغ المخزون الاستراتيجي لدى كل من المعسكرين؟ وهل تحقت المصالح المرجوة؟ وبأي قدر من المفاسد المقابلة لها؟ وعلى أيّ وجه يمكن قياس المصالح المتحققة بالمفاسد الواقعة؟
كلها أسئلة وتساؤات تبدو منطقية وواقعية إلى أبعد مدى، لكنّها مع ذلك وبرغم ذلك فارغة من المضمون الصيحيح السليم الذي يسنده الواقع والتجربة ويرفده الحق النابع من الوحي السماوي المعصوم؛ فكل سؤال وكل تساؤل منها كمسدس الصوت الذي يصخ الآذان بدوية ويخطف الأبصار ببريقه، ثم يذهب ويتبدد كسحابة ترعد وتبرق دون أن تبض بقطرة واحدة!!
من ذا الذي يستطيع أن يملأ فمه بادعاء أنّ العمليات العسكرية لا تقاس نتائجها إلا بالأرقام التي تحصي أعداد القتلى وحجم الخسائر المادية؟ ومن ذا يجرؤ على الحكم السريع على مستقبل القوى ومدى الصمود المتوقع لكل منها بمجرد النظر إلى حجم المخزون التسليحيّ وأعداد المقاتلين؟! ثمّ بأيّ ميزان من الموازين تقاس المصالح والمفاسد في مثل هذه الأمور التي يناط النظر فيها أصلا بكبار الأمة وأولي الأمر منها، وهم العلماء والصلحاء والأمراء المالكون لرؤية سوية نابعة من هوية الأمة وممحققة لطموحاتها؟! لقد صار لكل نسمة في الأمة ميزان خاص تراه هو الميزان الذي نزل القرآن بتحكيمه.
لن أتحدث عن حجم الزعر الذي أصاب المستوطنين اليهود، والذي يترجمه في الواقع تلك الحملات الإعلامية الجبارة التي مارستها رموز الدولة الصهيونية من أجل طمأنة الشعب اليهوديّ وغرس الثقة في قلوب اليهود تجاه دولتهم التي يرونهها تحار في أمرها بعد أن رأت القبة الحديدية تنهار في سرعة مفزعة، لن أتحدث عن هذا الأثر الظاهر ولا عمّا سيترتب عليه حتماً من هجرة عكسية قد تكون سببا على المدى البعيد في انهيار الفكرة الصهيونية من أساسها ثم انهيار المشروع برمّته، ولن أتحدث عن هيبة إسرائيل التي تعتمد عليها اعتماداً كليا في تركيع الأعراب وتطويع زعمائهم لأهوائها، تلك الهيبة التي انهارت بالفعل أمام الصمود الأسطوريّ لشعب أعزل ومقاومة محاصرة من القريب والبعيد.
لن أتحدث عن شيء من ذلك كله برغم ظهور آثاره ودنو ثماره، لكنّني سأذهب بالحديث إلى الأمد الأبعد لهذه الانتصارات العظيمة، وهو الأمد الذي أحسبه يزعج الأنظمة في العالم المنافق شرقا وغربا، وربما يستفزها للاعتراض على إسرائيل والإنكار عليها – طبعا دون تقديم دعم حقيقيّ للمقاومة – وذلك خشية تحقق الثمرة الأكبر للمقاومة، ألا وهي تقديم النموذج الذي يحتذى لتحقيق النجاح الذي طالما حلمت به الشعوب ولم تبلغ منه شيئا يكاد يذكر.
إنّ الشعوب الإسلامية اليوم تعيش حالة من اليأس وفقدان الثقة في كل التجارب التي مرت بها، سواء منها تلك التي اتخذت من العمل السياسيّ سبيلا للتمكين، أو تلك التي انتهجت الجهاد لتنتزع النصر والتمكين من بين أنياب السباع والضباع، أو تلك التي اعتمدت طريق التغيير البطيء الأكيد الذي يسلك بالأجيال من خلال العملية التربوية المدعومة بالوسائل الدعوية طريق الإعداد الطويل، فجميع التجارب مضت ولم تحقق للشعوب ما تحلم به.
لا أقول إنّها باءت بالفشل، فهذا أيضا حكم اليائسين المفلسين من كل رؤية منصفة، فما من حركة إسلامية أيّا كان منهجها إلا وقد حققت للإسلام الكثير، غير أنّه – لأسباب ليس هذا موضع سردها – غلبت المفاسد في مرحلة ما من عمر كل حركة على المصالح التي توختها، فتقلصت النتائج وتقلصت معها الآمال التي طالما حلمت بها الشعوب، وحل اليأس والإعراض محل الثقة.
وإنّ الأحرار من أبناء الأمّة اليوم في حالة من الترقب والتربص؛ انتظارا لما قد تسفر عنه النتائج القريبة لهذه المقاومة؛ وإنّها لترى الصراع القائم وتبصر الحرب الدائرة بعين غير تلك التي ينظر بها النظر الكليل للمُنَظِّرين المحصورين في أقفاص الأطر الكلامية الجافّة العقيمة، إنّها تلتمس الطريق الصحيح لا غيره، إنّها لا تسأل عن أقرب طريق للخلاص بقدر ما تبحث عن أصدق طريق للنضال وأقومه، إنّ الأحرار من أبناء الأمة قد اكتووا كثيرا بنار الرؤى الزائفة والتجارب البائسة؛ لذلك فهم لا يريدون إلا أن يقعوا على أنموذج يثبت الواقع أنّه الأنموذج الأمثل، ويومها لن يترددوا في استنساخه والنسج على منواله.
وليس في التجارب المعاصرة – على ما حققته من نجاحات لا نقلل من شأنها – تجربة واحدة سلمت من الإخفاقات وصمدت أمام التحولات واستعصمت بالرشاد وأُلهمت السداد كهذه التجربة العريقة تجربة المقاومة الفلسطينية، ولاسيما في طورها الإسلاميّ الأخير المتمثل في حماس والجهاد الفلسطينيّ؛ ومن هنا ينبع السؤال الذي يفجر الأمل في قلوب الشباب ويفجر الذعر في قلوب أنظمة الخراب: لماذا لا يكون هذا الطريق – طريق المقاومة الرشيدة – هو طريق الخلاص للأمة العربية بأسرها؟ وما الفرق بين العدو الذي يحتلنا والعدو الذي يحتل القدس وفلسطين؟ أليس هؤلاء صهاينة العرب كما أنّ أولئك صهاينة اليهود؟ ومتى فرق المسلمون بين ابن سلول وأبي لهب لمجرد أنّ الأول كان يحمل بطاقة مسلم والثاني بهوية قرشية مشركة؟ ما الفرق الحقيقيّ بين نظام يحاصر غزة من الشمال وآخر يحاصرها من الجنوب؟ أليس المشروع واحداً؟
إنّ انتصار المقاومة اليوم في حجمه الطبيعي انتصار جزئيّ، لكنّه بالنظر إلى الآماد البعيدة فتح مبين، وقد أنزل الله تعالى قوله: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) (الفتح: 1) في طريق العودة من الحديبية وقبل فتح مكة بعامين، وسواء كانت الحديبية هي الفتح، أو كان الفتح هو فتح مكة ولم تكن الحديبية إلا مقدمة له؛ فإنّ الآية تتنزل بفحواها على واقع هذه الانتصارات، فهي مقدمة للانتصار الكبير وللفتح المبين، وهذا في منطق الصراع وتاريخ التدافع أمر محفوظ في ذاكرة التاريخ، أمّا هذه الطريقة التي يفكر بها البعض فليست من التفكير العلميّ في شيء، ولقد رأينا من قبل مشائخ الميديا في مصر يستنكرون على حماس أنّها تضرب الصواريخ (الفشنك!) على تلّ أبيب فتجلب الغارات على (الشعب المسكين الآمن!) وكم صرخ المشايخ: أين المصالح والمفاسد؟ أين حقن الدماء؟ وكأنّ العدو الصهيونيّ سيتوقف عن المجازر إذا تخلت المقاومة عن سلاحها وعن جهادها!!
إنّ الصراع لا يدار بهذه الطريقة الانهزامية، وإنّ النصر والتمكين حصيلة لجهاد دائم وعمل تراكميّ دائب، وإنّ الأمور لا تؤخذ بهذه النرة العللة الكليلة، وإنذ الشباب ليفهمها بطريقة أسهل؛ لأنذ عقلية الشباب لم تتلوث بالثقافات المختلطة ولا بالتنطع الفلسفيّ، ولسوف يأتي اليوم الذي تزول فيه إسرائيل ويزول بزوالها كل عملاء إسرائيل، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).