الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
(بلاش هري!) يا (مَسْرِيِّين!) هكذا وَجَّه (الرئيس!) كلمته للشعب المصريّ القلق على مستقبله ومستقبل الأجيال القادمة من شعب مصر؛ جراء ما يحدث من تَعَدٍّ أثيوبيّ على النيل شريانِ الحياة لأرض الكنانة، خلاصة القول: “عيشوا حياتكم .. بلاش هري”! يا لسماجتها من كلمات! لولا ضرورات الكتابة لما استحقت الأقواسَ وعلاماتِ التنصيص! ولكن ماذا نقول؟ أنقول: إنّ من البلاء لما يثير مع البكاء ضحكاً كالكباء؟ وإنّ من الغباء لما يعجز عن وصفه الحذّاق من الشعراء والأدباء؟ وإنّ من السماجة ما تَمَجُّ الخلائقُ بسببه ما انطوت عليه البطون والأمعاء؟! ماذا نقول؟ قل لنا أيها العالَمُ الذي لم يشهد – على سعته وامتداده وكثرة ما تقلب فيه من أحداث – بلاءً كالذي ابتلينا به، قل لنا: ماذا نقول ونفعل؟
يا أيها الأخرق الذي بَذَّ في البلاهة الأقران والأنداد، لقد قُمْتَ بالتوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ، التي أعطت الحقّ لإثيوبيا في بناء السدّ واستمداد القروض التي كانت موقوفة ممنوعة بسبب مخالفة هذا السدّ لمعايير السدود في القانون الدوليّ، وبعدها خرجت في الإعلام ومعك رئيس وزراء أثيوبيا في فاصل هزليّ كوميديّ، تستحلفه وتستنطقه: “قول والله العظيم لن نلحق الضرر بمصر”! فهل بعد هذا الخرف تنتظر من (المسريين!) أن يعيشوا حياتهم تاركين لك وحدك تحمل مسئولية شريان حياتهم وحياة جميع الأجيال القادمة بعدهم؟ أم إنّك وَهُمْ كالذين قال الله فيهم: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ) (الزخرف: 54)؟!
يا من قَتَلْتَ بأسلحة مصر خيارَ أهلها، ثم انْثَنَيْتَ تَقْتُل بقية أهلها بالجوع والعطش والفقر والمرض والقهر والكبت؛ نستحلفك بكل إله أنت عابده أن تقول لنا: من أيّ قوم أنت إذْ تنادينا باستمرار وإصرار (يا مصريين)؟! أيّ رياح شؤم ألقت بك علينا، أأنت – كما قيل – صهيونيّ عميل؟ أم أنت كما يبدو عدوٌّ للبلاد دخيل؟ أم إنّ ذنوبنا وخطيانا جميعا قد تجمعت ثم انصهرت؛ لتتخذَ من جلدتك مسكناً ومن سحنتك وجها قميئاً؟!
لقد كنّا إذا ضاقت بنا الدنيا بسبب ما نلاقي من حكام العسكر الذين سبقوك ومهدوا بظلمهم وفسادهم لمجيئك النَّكِدِ، كنّا نلقي بأنفسنا في أحضان النيل فنبث فيه شجوننا ونشكو إليه همومنا، كنّا نستمد من بقائه الأمل في البقاء، ومن دوامه وتدفق مياهه الرغبة في النضال، ومن عذوبته وطراوته العزاء من كل ما نناله من الكرب والشقاء؛ حتى جئت أنت فقطعت عرقنا من جذوره، وأخذت علينا كل السبل وحاصرتنا من جميع الجهات؛ حتى صرنا لا يحول بيننا وبين الانتحار إلا خوف الخلود في النار.
أتدري ما الفرق بينك وبين “آبي أحمد” صعلوكِ الأحباش؟ ما الفرق بينكما إلا كالفرق بين مُؤْتمن على كيس من ذهب وآخر على حزمة من حطب، فتلاقيا وتداعيا وتمايلا وتهاديا، ثم إلى خيمة مريبة أَفْضَيا، وبعد سويعة لا ندري ما الذي جرى فيها تمخضت الخيمة عنهما، فإذا بصاحب الذهب يعود لقومه بالحطب، والآخر ينطلق إلى عشيرته بالذهب! فيا للعار الذي يجللنا أمام عالم لا يرحم الحمقى الأغبياء، إنّك لم تعرف قيمة الذهب الذي بحوزتك، لم تعرف قيمة النيل الذي يَنْسَلُّ من بين أحشاء الحبشة مخلفا وراءه هضابا قفرا؛ ليتدفق إلى أرض مصر بالسعد والوعد والخير العميم، ولم تعرف قيمة البلد الذي تسلطت عليه أرض الكنانة، ولا الشعب الذي تحكمت فيه، شعب الجهاد العتيق العتيد.
يا أيها الشعب المصريّ الذي كان في سالف دهره شامخا عظيما، أتذكر أنّ أجدادك هم من تكسرت على صخرة جهادهم وشموخهم – في حقبة من الدهر واحدة – أحلامُ وأطماعُ الصلييين والمغول؟! أتدري أنّ نابليون الذي دوّخ أوربا قد عادت حملته من حيث أتت بعد سنوات قليلة تجر أذيال الخيبة والعار؟ إنّك أيها الشعب لقادر على تحرير نفسك ونيلك ولقمة عيشك من هذا اللصّ الدنيء؛ فثق بنفسك ولا تستسلم للقنوط والإحباط، وكن على يقين من اليوم الذي سيأتي إن عاجلا أو آجلاً، وأعدّ نفسك له، بل اسع إليه واصنعه بيدك؛ فإنّ الفرص لا تَمنح الغافلين اليائسين تكرارها، وإنّ الفرصة إن سنحت فهي كالجواد السريع، إن لم تبادر إلى امتطاء صهوته مضى وخلفك مع القاعدين.
إنّ التحرك لإنقاذ النيل واجبُ هذا الجيل، فإن لم تتحرك الدولة بجيشها لتوجيه ضربة عسكرية تعيد المفاوضات إلى قناتها الطبيعية فعلى الشعوب أن تمارس ضغطها بحراك ثوريّ هادر، فإمّا أن يَهُبَّ هؤلاء المتحكمون في بلادنا ويزيلوا الضرر عنّا وإمّا أن يزولوا عن عرش البلاد وعن كرسيّ الحكم فيها، فلا مكان بيننا لمن يخوننا ويخدعنا ويبيع أرضنا ونيلنا ومقدرات بلادنا بأبخس الأثمان، أم يريد هذا الجيل أن ينتظر إلى أن تأتي ثورة الجياع فينخرط الكلّ فيها راغما لا راغبا؟ كما ينخرط الغثاء في خضم طوفان جارف لا يدري إلى أين يذهب به وفي أي منحدر سيلقيه؟!
صحيح أنّ الحراك كُرْهٌ وقَرْحٌ، لكنّ الحياة والنجاة في هذا الذي نكرهه ويصيبنا منه القرح، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) (الأنفال: 24) وقال سبحانه: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، وإذا كان عدوكم قد كسب عليكم جولة وأصابكم من قرح فلا تيأسوا: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران: 139).