لا تَعضّ رغيفي!

الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد .. لم يَعُدْ لشعبنا ما يرجو بقاءه ويخشى فناءه سوى رغيف الخبز! بعد تبدد الآمال وذهاب الأحلام، بعد ضياع كل مكتسبات الثورة ومعها جميع ما ورثه هذا الشعب من فتات الحريات وبقايا الحقوق، بعد أن صارت مصر مهددة تهديدا حقيقيا بأن تصبح يوما فترى نفسها بلا نيل ولا وادي ولا دلتا ولا حقول ولا خضرة ولا محصول، بعد أن أكل الغلاءُ المسعور كلَّ رغبة في عيش هانئ أو حياة كريمة، بعد أن ابتلعت السجون السوداء في غياهبها صلحاء الأمة وعلماءها وخيرة شبابها، إلا من استثناه الاختباء أو طواه الاختفاء؛ ليبتلع الفساد والإجرام والانحلال الخلقي الجيل كله إلا من رحم الله (وقليل ما هم)؛ بعد كل هذا الذي جرى لشعبنا وبلدنا على يد ذلك البلاء الجاثم فوق عرش مصر؛ لم يَعُدْ في الحياة كلها شيء يتشبث به الأحياء إلا رغيف الخبز، الذي سميناه – لكونه عندنا سبب الحياة – (رغيف العيش). إنْ أَنْسَ لا أَنْسَ يوما تجرأ فيه السادات بعد منتصف السبعينات من القرن الذي فات، على رفع ثمن رغيف الخبز من خمسة مليمات (قرش تعريفة) إلى عشرة مليمات (قرش صاغ)؛ يومها قامت قيامة مصر، وثارت جموع المصريين ثورة هوجاء عصفت بكل شيء، وكادت أن تطيع بالسادات ومعه جميع أركان نظامه بما فيهم القيسوني الذي كان أداة السادات في تنفيذ القرار، ولولا التدخل الأمنيّ البالغ العنف لكان السادات ومعه جميع ما سطر لنفسه من أمجاد بما في ذلك العبور العظيم في (خبر كان). ذلك لأنّ رغيف الخبز للشعب المصريّ خط أحمر، استمد حمرته وحدته وحرارته وشدته من دماء أبنا النيل، الذين عاشوا دهرهم معتمدين في عيشهم على توفر الخبز، ومن غير المعقول ولا المقبول – والوضع هكذا – أن يتم العدوان على شعور المواطن باستقرار سعر الرغيف؛ لأنّ ذلك العدوان يُعَدُّ عدوانا على حقه في الحياة، وهل بعد العدوان على حق الحياة عدوان؟! والدولة التي ظلت على مدى عقود طويلة تُقَايِضُ الشعب على تأمين هذا الرغيف في مقابل استلابها لمقدرات البلاد ومعها كرسيّ الحكم؛ لا يحق لها اليوم أن تمارس – بإرادة منفردة – حرمان الشعب من ذلك المقابل البسيط الذي من أجله تنازل لها عن كل شيء، عن حقه في اختيار من يحكمه، وعن سلطانه في المراقبة والمحاسبة، وعن حريته وكرامته وأمنه واستقراره، وعن حقه في الرفاه والعيش الكريم، وعن حقوق الصحة والعدالة والتعليم القويم، ومن باب أولى لا يحق لها أن تمارس المنّ والأذى بأنّها تدعم الخبز وبعض المواد التموينية؛ لأنّها تعلم قبل أيّ جهة أخرى أنّها بسوء تخطيطها وبخضوعها الكامل للهيمنة الغربية حرمت البلاد من إنتاج ما يكفيها من كل هذه السلع وعلى رأسها القمح، رغم توافر جميع المؤهلات والعوامل من تربة ومناخ ومياه ويد عاملة وغير ذلك. وقد استمعت إلى كلمة هذا الذي يمتطي صهوة الحكم في مصر، واستفزتني مقارنته الذاهبة في الغباء مذهب من شبه الأرض في سفولها بالسماء، كيف يقارن السيجارة الحقيرة بأرغفة الخبز؟ وكيف يمارس الأذى لمشاعر الناس والتضليل لعقولهم في آن واحد بهذه الوقاحة الممزوجة بالتناحة؟ ما لنا وللسيجارة، وما علاقة رغيف الخبز الذي يمثل للناس في بلادنا عصب حياتهم وأصل أقواتهم بذلك (الكيف!) الذي إن اتخذ قرارا بمنع بيعه وتداوله فلن ينعكس تيار النيل إلى الجنوب ولا تيار الرياح إلى الشمال، وهل إذا بلغ ثمن زجاجة الويسكي ألف دولار سيرفع سعر الزيت إلى عشرة أضعافه؟! أم سيغلق محلات عصير القصب لكون المواطن غير قادر على شراء الكوب بألف جنيه؟! ما هذه الطريقة الساقطة في مخاطبة الشعب، ثم ما هذه الصلافة الممزوجة بالإرهاب؛ حيث يتحدى الشعب في طريقة الإعلان؟ أَلِأَنَّه يملك القوة الغاشمة ويمارس بها الغشم في العدوان؟ فليعلم إِذَنْ أنّ هذا الشعب البسيط إذا غضب هاج كهيجان الثور الجامح الذي خرج عن طوع مالكه؛ وإِذَنْ لن ينفعه وقتها جيش ولا شرطة ولا حراس. وإن تعجب فعجب تبرير الشيخ (كريمة) بأنّ بعض الناس يستخدم الخبز في صناعة (البوظى!) ولا أرى (البوظى) إلا ذلك الكلام ال (البايظ) الذي ينحدر من فيه المهدول كانحدار الخمر من فم سكران شرب حتى الثمامة، وهب أنّ هذا صحيحا، فهل يكون له حكم؟ ألم تمر عليه يوما قاعدة: “النادر لا حكم له”؟! فكيف يحكم بالنادر على الغالب، إن صح أنّه موجود، ولا أحسبه موجودا إلا في دماغه هو وحاكمه الذي بلغ في جنوح الخيال مبلغ الخرف والخبال. يا أيها الشعب الذي يستطيع في عَشِيّةٍ كَعَشِيَّةِ الثامن والعشرين من يناير 2011م أن يكون عظيما، أما آن الأوان؟! ألم يَأْن لك بَعْدُ؟! إلى متى الانتظار؟! لقد أُهين دينك فلم تتحرك؟ وبِيعت أرضك فلم تغضب! وأُهدي نيلك العظيم للأحباش مقابل اعتراف المجتمع الأفريقيّ بشرعية زائفة للطاغية فلم نر لك خيلا ولا نفيرا، واليوم يراد كسر الحاجز للإطاحة بحقك في العيش – مجرد العيش – عبر رفع سعر رغيف الخبز؛ فلم نسمع لكم ركزا! فإلى متى هذا السكوت؟!! ويا أيها الكبار من علماء الأمة ومفكريها: أما آن الأوان لتقودوا هذا الشعب في ثورة تحرير كبرى ضد المحتل بالوكالة، أين رؤيتكم وأين مشروعكم وأين وحدتكم وأين صفكم، وقبل ذلك أين أنتم من قضايا الأمة؟ وأين الدور الكبير المنوط بكم؟! وأين شيخ الأزهر من هذا الذي يجري؟! ألا يتحرك ضميره لما يعانيه هذا الشعب، ألا يرى أن من مسئولياته الدينية والدعوية والشرعية أن يبين الحق فيما يتعلق بأقوات المسلمين؟! ألا إنّنا على أبواب خطر كبير، فاللهم نسألك الثبات، ونسألك يا ربنا أن تهيء لهذا الشعب أمر رشد وسداد، يأخذ بيده إلى طريق المقاومة والجهاد، ويهيئه للقيام بدوره في النهوض بالبلاد .. آمين، وفي الختام لن أقول للذي يعتدي على رغيفي تلك القولة التي تحمل معنى الاستجداء والتنازل: “عض قلبي ولا تعض رغيفي”، ولكن سأمحضها للرفض: “لا تعض رغيفي”.