ليس بإمكان أحد أن يزيح من ذاكرة التاريخ هذا الحدث الجليل؛ لأنّ هذا النوع من الأحداث لا يُسَطَّر في أوراق ولا يدون في موسوعات أو دوائر، وإنّما يُحفر في القلوب وينقش في المشاعر والضمائر، وما كان كذلك لا يمكن أن تمحوه أو تشوه صورته عوامل التعرية التي تهب من جهة المزورين المبثوثين في كلّ منصات الإعلام ومحطات صناعة الرأي العام؛ لذلك ستبقى رابعة في ذاكرة الجيل وما سيتلوه ويقفو أثره من الأجيال، ستبقى حيّة نابضة غضة يانعة فياضة بالمعاني والدروس والعبر.
ولكي يكون لنا حظ ونصيب من عطاءات رابعة، ولكي لا يفوتنا القطار الذي سينطلق حتما من منصتها إن عاجلا أو آجلا شاء الناس أو أبوا، ولكي نُسْتَعمَلَ في عصرنا ولا نُسْتَبْدَل بغيرنا؛ يجب علينا أولا أن نفهم رابعة على وجهها الصحيح، ويجب علينا ثانيا أن ننطلق مما قررته رابعة من منطلقات، فليست رابعة حدثا عادياً، وإنّما هي من الضخامة والفخامة بما يضطرنا أن نصنفها مع الأحداث الكونية الكبيرة التي يغير الله بها مجرى التاريخ تغييرا لا يدرك أثره إلا بعد مضي عقود طويلة.
إنَّ رابعة لم تكن ميدان حسم يناط به إنهاء الصراع وإقرار النَّصر، وإنَّما كانت في حقيقتها منصة انطلاق إلى طريق النصر والتمكين، ولقد قامت بدورها على أكمل وجه وأحسنه، فما صنعته رابعة هو عين ما أنيط بها: صناعة المنصة، هذه المنصة تتمثل في أمرين اثنين متوازيين، الأول: النواة الصلبة التي يناط بها التغيير الحقيقيّ، هذه النواة الصلبة هي التي افتقدتها ثورة الخامس والعشرين من يناير وسائر ثورات الربيع العربيّ، حيث توافرت فيها الكتلة الحرجة دون أن تتوسطها النواة الصلبة، فكانت ثورةَ اللحظة الخاطفة، ولو كانت تلك الكتلة الحرجة مشدودة إلى نواة صلبة تتوسطها، ومقودة بقيادة حكيمة تنتمي إلى تلك الكتلة الصلبة لما وقع ما وقع.
الأمر الثاني هو صياغة العقيدة الناصعة والرؤية الواضحة؛ فلم تعد الشعارات العظيمة طائرة في الفضاء، وإنَّما صارت كلها مشدودة إلى عقيدة هذه الأمَّة، وغدا الإسلام منبع الحريات الحقيقية، وغدت الشريعة مصدر العدالة الاجتماعية، وغدت نصوص الكتاب العزيز هي الباعث على الحركة والتغيير، ولم يعد الطاغوت المعادي لله صديقا لعباد الله، ولا المفسد المحارب لدين الله حليفاً لجند الله.
من هذه المنصة انطلقت شرارة الثورة في مرحلتها الثانية، انطلقت بعد التكوين الذي تمّ في مححضن رابعة، ذلك التكوين الذي ولد في لحظة من الزمان تفيض جلالا وكمالا هذين المكتسبين العظيمين: النواة الصلبة والعقيدة الباعثة، ولم يغب عن هذا المحضن عنصر واحد من عناصر البناء: التجميع – التصفية – الوحدة – الجماعية – التربية – التوعية – التعاهد .. فلقد تجمع أهل الخير والحق والعدل من كل مكان ومن كل فصيل، اجتذبتهم رابعة بقوة الحق وسلطانه، فلم تترك منهم أحداً يحجبه عنها حاجب ماديّ أو معنويّ، فمن لم يشهدها بنفسه شهدها بقلبه وشعوره ووجدانه، وكذلك نفضت رابعة بقوة النازلة وشدة الابتلاء كل من لم يتمتع بالصدق وينعم بالاستقامة، ثم طفقت تربي تربية إسلامية ميدانية مفتوحة، فتشكلت المنصة وتكونت القاعدة الصلبة وتعاهدت على التضحية وتبايعت على الموت في سبيل الله.
ثمّ جاء الفضّ على هذا النحو ليتخذ الله تعالى من هذه القاعدة عربون النصر، وهو التمحيص للمؤمنين والاصطفاء للشهداء: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) (آل عمران: 140).
ثمّ خرجت هذه القاعدة المباركة من رابعة لتنطلق في فجاج مصر وتسيح في شوارعها؛ تلتمس الفتح الذي لا يعلم إلا الله متى سيكون، وإذا كان الحراك اليوم قد توقف لعوامل كثيرة – ليس هنا موضع الحديث عنها – فإنه لم يمت ولن يموت؛ بل ليس من طبيعة الأمور أن يموت، وربما كان عدونا أكثر منا بصيرة بهذه الحقيقة؛ إذ يستمر في المطاردة ولو لأشباح الثائرين (السلميين إلى أبعد مدى)!!
ولا يصح أن نغرق في الخطأ فنعمى عن هذه الكتلة الصلبة رغم أنها بكل مكوناتها حاضرة وماثلة في عين الدنيا، حاضرة بالمكون البشريّ الذي – وإن غاب عن المشهد قليلاً – لم ولن ينسى قضيته، ومن باب أولى لن يستسلم لليأس أو ينساب في ركب الباطل، ومع المكون البشريّ مكون عقديّ وفكريّ ومنهجيّ، ربما لم يكن في يوم من أيام الصحوة الإسلامية بهذا الوضوح وهذا التجانس وهذه الصراحة.
فالواجب علينا – إذن – أن ننطلق من هذه المُسَلَّمة الواقعية، وأن نؤمن بأنّ لدينا قاعدةً صلبة تصلح لأن تكون عصبَ التغيير ومنصةَ التحرير ومنطلقَ التحولِ الكبير، ثمّ ننطلق من هذه المسَلَّمة إلى الأمام، وفي هذا الجو المتفائل الواعي، وبهذه الروح الواثقة المتحررة من الأوهام ندرس الظواهر على اختلافها، بما في ذلك ظاهرة عجز الحراك عن الحسم، وظاهرة افتقار الحراك للحاضنة الشعبية، وظاهرة تقلص المد الثوري وتراجعه، هل يستلزم لعلاج هذه الظواهر مراجعة الخطاب وإعادة صياغته، أم يستلزم تغيير الأدوات والآليات بما يناسب الظرف ويلبي الطموح، أم يحتاج إلى إعادة هيكلة للمشروع الإسلامي والثوري، أم يتطلب قيادة رمزية جديدة ؟ أم غير ذلك مما لا بد منه؟ وهذا كله مما يجب على كبار الأمة وأهل الحل والعقد فيها، من العلماء المخلصين والدعاة النابهين والسياسيين الراشدين.
ومن هذا المنطلق نقول إننا خسرنا جولة في الصراع، لكنَّنا لم نخسر المعركة كلها، ولم نخسر أنفسنا ولم نخسر قضيتنا العادلة، فلو أنَّنا تحت مطارق الفتنة تخلينا عن قضيتنا لخسرنا أنفسنا، ولو أنَّ قضيتنا تراجعت في معتقدنا وفهمنا أو في همتنا وعزمنا لخسرناها ولم نعد لائقين بها، ولو أنَّ شيئاً من ذلك وقع لخسرنا المعركة كلها، ولكنَّ شيئاً من ذلك لم يقع؛ لذلك فنحن في المعركة التي لم تنته بعد، وفي ميدان الصراع الذي لم يحسم إلى الآن، ولا زلنا باقين مستمسكين لم نستسلم، ولا زالت قضيتنا حيَّة فينا لم تذبل ولم تمت، وإذا كان البعض تحت رحى الفتنة قد وقع منه ما يشوش على هذه الصورة فإنَّ جيل الصحابة قد وجد فيهم من عاتبه القرآن عقب أُحُد بهذه الكلمات التي تفيض رأفة وحناناً وتقريباً برغم شدة وقعها: (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ) (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ) (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).
ولو أنَّ الصحابة رضوان الله عليهم نظروا إلى أحد على أنَّه نهاية الدنيا لما نعم واحد منَّا بالإسلام اليوم، وإنَّ القرآن الكريم الذي تعهدهم بعد الوقعة بنفض الوهن ورفع الوعي لا يزال يهتف في الأجيال المسلمة: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ، وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ، وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران: 39-41).
إنَّ المعايير التي تقاس بها المغانم والمغارم في رحى الصراع أوسع بكثير من تلك المقاييس الآنية التي نقايس بها نتائج الأحداث القريبة، ونحن وإن كنَّا على مستوى الأحداث القريبة قد خسرنا الكثير، وإن كانت المؤاخذات على الأداء في جميع تجاربنا صارخة ومزعجة فإنَّ وراء ذلك معايير أخرى تعاير بها الأمور على وجه العموم، فدائرة الإسلام تتسع على حساب غيره، ودائرة الفاهمين لحقيقة “لا إله إلا الله” والعاملين لها تزداد على حساب غيرها، ودائرة المجاهدين الباذلين مهجهم لنصرة هذه القضية تزداد على حساب غيرها، والفكرة التي تعد مركزاً لكل هذه الدوائر التي تتسع يوما بعد يوم تزداد عمقا ورسوخا وجلاءً ووضوحاً، وفي المقابل كل المشاريع تتراجع – وإن ببطء نسبيّ – لصالح المشروع الإسلاميّ القادم، وجميع ما تتعلق به البشرية من خيوط النجاة والفلاح تذبل وتضمر وتتهتك.
فلننطلق من منصة رابعة إلى ما نريد ونؤمل من النصر والثأر، ولن يضيعنا الله إذا توكلنا عليه، (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) (يوسف: 21).