الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
باستثناء وَمَضَاتٍ قليلة وسريعة وخاطفة؛ لم أجد في السنوات الأخيرة من تحدث عن ظاهرة الانهيار الأخلاقي في المجتمع المصريّ فَرَدَّها إلى أسبابها الأكثرِ عمقًا و الأبعدِ أثرًا؛ لذلك سيكون شاقًّا ومُكْلِفًا وُلُوجُ هذه المنطقةِ الشَّائكة المعقدة، وستبلغ المعاناة منتهاها إذا انتقلنا من الوقوف على الأسباب إلى التعرض للعلاج ووصف الدواء، هذا كله في التنظير فقط ممن لم يَعُدْ يملك – لأسباب لا يملكها – إلا التنظير والتأطير؛ فكيف سيكون حال من سيعاني العمل والتطبيق والتنفيذ؟ لا ريب أنّ أجره أعظم وأنّ ثوابه أكمل وأشمل، ومِنَ الله وحده نَلْتَمس الأجر؛ منّةً منه وفضلا، كما نلتمس العون والتفيق والسداد.
وليس يخفى على أحد مُنْشَغِلٍ بالشأن المصري ومتابع للأحداث اليومية ما آلت إليه الحالة الأخلاقية داخل المجتمع المصريّ؛ فحالات القتل والاختطاف والبلطجة والاغتصاب والنهب والاحتيال – ناهيك عَمّا تموج به الأسواق والحارات والطرق والمواصلات من حالات تحرش وسوء أدب – كل هذه الحالات لشدة انتشارها وفرط تَبَدِّيها صارت أمورا اعتيادية لا تثير في الناس استهجانا ولا تبعث فيهم استنكارا؛ فلطالما عايشوا أحداثا من هذه النوع وألفوا وقوعها ولم يعد يزعجهم سريانها وانتشارها، حتى صار قتل الزوج لزوجته وقتل الزوجة لزوجها من ضمن الجرائم اليومية المعتادة!!
ومن المؤكد أنّ الإلحاد الذي أطل برأسه من شاشات الميديا سافرا ساخرا لم يصل إلى هذه المرحلة إلا بعد مروره على جسر كبير مما وصفه العلماء بأنّه “بريد الكفر” عندما قالوا: “المعاصي بريد الكفر كما أنّ الحمى بريد الموت”، أمّا ما وصلت إليه الميديا والأوساط الفنية من انحطاط خلقي وتفسخ وانحلال، وما بلغه الإعلام من إسفاف بلغ من الانحدار مبلغا لا يصل إليه ساقط فوق رأسه في قاع الهاوية السحيقة، عن هذا حَدِّثْ ولا حرج؛ لأنّك مهما تحدثت فأسهبت وأطنبت وركبت متن المبالغة والتهويل لن تستطيع تصوير الواقع العفن كما هو عليه من الكذب والنفاق والتزوير والدياثة والدناءة وانحطاط الهمة.
فما هي الأسباب؟ أهو الجهل ينخر في الهيكل الأخلاقيّ كما ينخر السوس في أعمدة الخيمة؟ أم إنّ سوء التربية وافتقاد مناهج البناء الصحيحة أدّى إلى ذلك ومُرَشَّحٌ أن يؤدي إلى المزيد؟ أمْ إنّه الدور الدنيء للإعلام الرديء في التسهيل والتذليل للرذائل، وفي التضييق والتعويق للقيم والفضائل؟ أم إنّها الحملات المتتابعة للغزو الخارجيّ بالشبهات والشهوات؟ أم إنّ تغييب الدور العلمائي بالاعتقال والتهجير والخنق والتضييق أدى إلى انزواء الدعوة وأيلولة العمل الوعظي والتربويّ إلى نشاط وظيفي مُسَيَّس؛ فانطفأت جَذْوَة التأثير بعد أن كانت مُتَّقِدة، إم إنّ تلك الأسباب كلها اجتمعت على صناعة المأساة؛ فكان لكل سبب منها نصيب لا يزاحم عليه وحظ لا يذاد عنه؟
الواقع أنّ هذه الأسباب كلها مع غيرها مما يمكن أن يكون قد غاب عنّا في هذا الاستقصاء لم تكن لتؤثر هذا التأثير الخطير لولا ذلك السبب المحوري الذي يمثل قطبا جاذبا ونقطة ارتكاز جوهرية تدور حولها جميع الأسباب سواء منها ما ذكرنا أو ما لم نذكر، ألا وهو النظام الحاكم، النظام الذي وجد نفسه متحكما في مصير بلد كبير بحجم مصر وهو خالي الوفاض من كل قيمة ومن كل مبدأ ومن كل فضيلة ومن كل مؤهل للحكم والقيادة، النظام الذي لم يأت ليحكم إنَّما جاء لِيَحْرِقَ ويُغْرِقَ.
إنّ المتتبع لتصرفات هذا النظام والمستقرئ لسلوكياته يَتَبَيَّنُ له بيقين أنّه يأخذ البلاد إلى حريق هائل أو إلى غرق لا يبقى فيها قائم ولا مائل، فعلى الرغم من أنّ السيسي يقوم ب”تستيف” مراكز القوى حول شخصه ليدوم حكمه وتترسخ أركان عرشه؛ إلا أنّ الخطة التي أتت به شيء مختلف عن طموحاته وأحلامه وترتيباته الشخصية التي تجدف بعبثية بالغة ضد التيار القويّ الذي يحمله مع أحلامه فوق ثبج الطوفان الجارف الذاهب بقوة وعنف إلى الهاوية السحيقة.
إنّ هذا الحكم الذي أتى في سياق الانقلاب على ثورة الشعب المصريّ؛ فأطاح بكل أحلام الجيل، قتل الطموح وأحيا اليأس والقنوط، وبعث من تحت التراب روح الهزيمة، ونشر في الأجواء كل دواعي الانهيار النفسي والأخلاقي، وليس في حياة الخلق شيء يقتل الإنسانية داخل القبو البشريّ المتحرك بالقصور الذاتي إلا الشعور بالفشل واليأس من استعادة الأمل، هذه هي الحالة الشعورية التي تدور مع الحكم المستبد حيث دار، ويتولد منها ثم يدور معها في ذات الفلك النكد كل أسباب الانهيار الأخلاقيّ؛ ومن هنا كان واجبا على الأمة إقامة الدولة التي تحكم بشريعة الله وتمضي بالحياة على الصراط السويّ وفق منهج الله؛ لأنّه كما قيل: “إنّ الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”.
لا سبيل إلى تدارك البلاد وإنقاذها من هذا المنحدر قبل أن تبلغ قاع الهاوية السحيقة إلا مواجهة هذا النظام مواجهةً واسعة ممتدة بعرض الجبهة كلها، دون أن تبقى ثغرة على خط المواجهة شاغرة أو ضعيفة، لا جدوى من محاولات العلاج الفردية البسيطة، إنّها كالبناء في طريق الطوفان العارم، وأَنَّى لأكواخ صغيرة متناثرة أن تثبت أمام طوفان أطاح بالعمائر والمدائن والحصون والقلاع، يجب أن تكون المواجهة على كل الأصعدة وبجميع الوسائل الممكنة، على الصعيد الدعوي التربويّ، وعلى الصعيد الشرعيّ العلميّ، وعلى الصعيد الثوريّ الحركيّ، وعلى الصعيد السياسي والحقوقيّ، وعلى صعيد المقاومة الشعبية المنشودة، والتي ينبغي الترتيب لها بصورة متدرجة عبر منهجية تتفق مع المشروع التغييري وتنبثق من الرؤية الثورية.
وليس هناك طريق غير هذا الطريق، فإن تأخرنا فسنعود إليه راغمين، وكل تبكير إلى سلوكه توفير للوقت والجهد وتسريع لعجلة التغيير، ويوم أن تدرك الأمة مطلبها وتبلغ غايتها وتحقق المقصد من سعيها؛ ستكتشف أنّ ما قدمته من تضحيات قليل جدا إذا قيس بما حققته من إنجازات ونجاحات غطت كل قصور وفشل مضى عليها، وسيكون لها الفخر أن استعادت ما ضاع منها بما في ذلك أحلامها وآمالها، وكما قيل: “عند الصباح يحمد القوم السري”.