الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
لو كان الذي يجري داخل جماعة الإخوان المسلمين من نزاعات وانشقاقات واتهامات متبادلة أمرًا مستورًا لكان التدخل منّي أو من غيريي فضولًا لا يليق، أمّا وقد خرجوا جميعا إلى الإعلام؛ ليعلن كل فريق منهم عزل الآخر، ويشنع كل فصيل منهم على الآخر، ويتبارون في تبادل التُّهم وتقاذف الشتائم؛ فقد أوجبوا على كل من يعنيه أمر الإسلام والمسلمين أن يعلن عن رؤيته في معالجة الأوضاع المتردية داخل هذه الجماعة العريقة؛ رجاء أن يلهمها الله رشدها الذي كانت عليه.
ورؤيتي تتلخص في أن يقوم علماء جماعة الإخوان المسلمين – وهم كثيرون متوافرون والخير فيهم كثير ووفير – بدعوة الطرفين للمثول أمام لجنة مُشَكَّلَةٍ من علماء الجماعة، تقوم هذه اللجنة بالاستماع للطرفين وبالنظر في دعوى كل طرف وفي أدلته ودفوعه، ثمّ تصدر حكمها وتلزم الكافّة به، فإمّا أن يتبين للجنة أنّ أحد الفريقين على حقّ والآخر على باطل؛ فتقضي للمحق على المبطل، وتمكنه من ممارسة حقه، وإمّا أن يتبين لها أنّ الفريقين يتنازعان أمراً ليس لهما؛ فتقضي بتنحية الطرفين، واختيار مجموعة تتوسم فيها صلاحًا؛ لتقوم بإدارة مرحلة انتقالية يتم فيها انتخابات جديدة، بقواعد يشرف العلماء على وضعها، ولائحة جديدة تلبي حاجة الجماعة في ظرفها الحاليّ وتتوافق مع المتغيرات الجديدة.
فإنْ رفض فريق من الفريقين المثول أمام اللجنة العلمائية فقد أسقط حقّه في الترافع عن نفسه، وقضت اللجنة بحكمها في غيابه، واستعملت ما يتاح لها من وسائل للوقوف على الحقائق، واعتبرت أنَّ عدمَ مثولِ هذا الفريق قرينةٌ قويةٌ على اتهامه وإدانته، فإن رفض الفريقان المثول ذهبت اللجنة إلى الخيار الأخير مباشرة؛ فاختارت من تضع ثقتها فيهم من سوى الفريقين، وتوكلت على الله، وليس من الخير تأخير القضاء التماسا للإصلاح والتسوية؛ لأنّ الخرق قد اتسع على الراقع؛ فليس من الحزم ترقيع ما لا يزيده الترقيع إلا تهتكا وتفسخا.
قد يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا الحلّ خيال لا يمكن تحقيقه، وبرغم هذا الذي يبدو للنظرة السطحية العَجْلَى فإنّني أؤكد أنّ هذا الحلّ في غاية الإمكان والسهولة، وما جعله صعبًا إلا أنّنا نؤثر السلامة، ونعزف عن المواجهات، ونستعذب العمل الدعوي والعلميّ في المناطق الهادئة؛ بعيدا عن المحكات التي تكثر فيها السهام الطائشة، وهذا في الحقيقة ابتعاد عن دور للعلماء في غاية الأهمية، وعن واجب كفائيّ لا يسوغ التواطؤ على إهماله وإهداره؛ فإنّ العلماء هم أهل الحل والعقد وهم أولوا الأمر على الحقيقة، وما الأمراء إلا وكلاء عن العلماء في إدارة الجماعة، كما أنّ الخليفة وكيل عن أهل الحل والعقد الممثلين للأمة.
إنّ جميع المنتسين إلى جماعة الإخوان المسلمين يُجِلُّون علماءها ويعظمونهم، وإذا كانوا يسمعون ويطيعون لأمرائهم أكثر من علمائهم فإنّما ذلك لأجل الأمور التنظيمية، التي انهارت اليوم ولم يعد لها الاحترام الذي كان؛ ومن ثمّ فإنَّ بروز العلماء في هذه اللحظة يتمتع بمسوغات شرعية وتنظيمية وعرفية ومصلحية، كافية لصرف أعضاء الجماعة عن التنظيميين إلى العلماء الربانيين، وهذا هو مَكْمَنُ القوة في وضع علماء الجماعة في هذه الأيام، وهذا أيضا هو منبع القول بوجوب تدخل العلماء لحسم النزاع.
وقد يرى المؤتمر العام لعلماء الجماعة أن يستعين بخبراء في القضاء والسياسة فيدعم بهم لجنة التحقيق، وقد يرى مؤتمر العلماء كذلك أن يحدد عمل اللجنة؛ فيحصره في التحقيق وفي اقتراح الحكم المناسب دون إبرامه وإعلانه، ثم يؤول الأمر إلى مؤتمر العلماء ليصدروا الحكم النهائيّ بصورة جماعية بعد تشاور بينهم، وتحاور مع لجنة التحقيق، وليس بعيدا أن يقرر العلماء بعد هذا كله أنه ليس من المصلحة استمرار الجماعة في ظل غياب قادتها الكبار وفقر الساحة من النُّخَبِ القادرة على القيادة الرشيدة؛ فيعلنوا حلّ الجماعة، ويعلنوا لأعضائها جميعا أنّه لم يعد في أعناقهم بيعة لأحد، ولا التزام أدبي أو ماليّ تجاه أحد، وأنّهم من اليوم أحرار طلقاء من أيّ التزام، وأنّ عليهم كما على كل مسلم أن يتحركوا في دعوتهم للإسلام بالطريقة التي يريدون، وأن يستفتوا من يثقون بهم من علماء الإسلام فيما يعرض لهم من الأمور الشرعية والحركية، حَبَّذا لو أوجد العلماءُ منصاتٍ بديلةً، تتنوع وتتوزع وتنفتح على العالم الرحب الوسيع، وليس بعيدا كذلك أن يكون علماء الإخوان لديهم المعلومات الكافية والحقائق الوافية التي تقضي في نظرهم بأنّ ما يجري الآن في داخل التنظيم إن هو إلا الدليل القاطع على أنّ الجماعة قد انتهت وانقضى أمرها بغياب قادتها الكبار؛ فيخرجوا على الناس برؤيتهم، كل هذا مُتَصَوَّرٌ وممكن الوقوع، أمّا الذي لا يمكن تصوره فهو الصمت التام والسكوت الزؤام.
إنّ الدور العلمائي هنا هو المنقذ للجماعة ولأعضائها، وهو المخرج الوحيد للجميع من هذا النفق المظلم، ولو أنّ علماء الجماعة لم يقوموا به لانتقل الواجب إلى علماء الأمة كافّة، فما عاد الوضع يتحمل غياب الدور العلمائيّ أكثر من هذا، وإذا لم يقف العلماء اليوم في وجه الأمراء من أبناء العمل الإسلاميّ؛ فماذا سيصنعون في مواجهة أمراء الطغيان وأئمة الكفر والفسوق والعصيان؟!
إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما بايع الأنصار عند العقبة البيعة الثانية التي قامت بها الدولة في المدينة كان من بنود هذه البيعة: “أن يقوموا فيقولوا في الله لا يخافون لومة لائم”، وإنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وممارسة الحسبة السياسية واجب على العلماء قبل العامة والدهماء، فإن أهملوا هذا الواجب الكبير فمن الذي سيقوم به بعدهم؟! فاللهَ اللهَ في الجماعة وفي شبابها، اللهَ اللهَ في الأمة الي تمزقت وآل أمرها إلى الضياع بسبب هذا التمزق والتشتت.
هذه مبادرة أتوجه بها إلى علماء الجماعة الأفذاذ، وإلى مؤسساتها العلمائية العريقة، وهذا نداء أتوجه به إلى من أثق بهم وأرى فيهم الخير الكثير، وأسأل الله تعالى أن أكون قد أخلصت في نصحي لإخواني، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يوفقهم لكل خير، (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)) (الصافات: 180-182).