الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
الإنسان .. هل هو محور الحقيقة أم إنَّ الحقيقة أمرٌ فوق الإنسان؟ والحقيقة .. كيف نفهمها؟ أَمِنْ خلال العقل؟ أم من خلال الكتب المقدسة؟ هذه الحقيقة .. هل هي ثابتة؟ أم إنّها متغيرة ومتطورة؟ تلك هي الأسئلة الثلاثة التي تحدد الإجابةُ عليها أسسَ المنهجِ الحداثي، والحداثةُ تجيب عن هذه الأسئلة بحسم ووضوح؛ فالنزعة الإنسانية، والعقلانيةُ، ومبدأُ الحركةِ وقانونُ التطور العام في الوجود، هذه الثلاثة هي الأسس الفلسفية للحداثة”([1]).
فالحداثة التي اكتسبت هذا الاسم من تحديثها للعقل ولنظرته للوجود تقوم على هذه الأسس الثلاثة، فالنزعة الإنسانية تعني أنّ هذا الإنسان هو سيِّدُ هذا الكون ومحور هذا الوجود؛ فينبغي صرفُ النظر إليه لا إلى الإله، والاهتمامُ بدنياه لا بآخرته، والعقلُ هو وحده سبيل المعرفة؛ التي يجب أن تنصرف عن الميتافيزيقا وترفض وصاية السماء، والحقيقة نسبية ومتطورة ومتغيرة؛ ومن ثم فالأخلاق ليست شيئا ثابتا ولكنها تخضع هي الأخرى لقانون التطور العام.
والواقع أنّ الحداثة – برغم تنكرها للميتافيزيقا – تقوم على أصل ميتافيزيقي بصورة ما، فَعَلَى خلاف البعد الميتافيزيقي الشرقيّ، تقوم الميتافيزيقا في الغرب ابتداء من عصر التنوير على مبدأ السيادة على الكون والسيطرة على الطبيعة بأكملها، هذا المبدأ يمثل العامل القيمي المحوري الحاسم في تشكيل البنية المعرفية والأخلاقية للغرب في ظل الحداثة وما وراء الحداثة، وهذه السيطرة ليست فقط على المادة المتوحشة البليدة الغبية؛ وإنما كذلك على الذات الإنسانية، ومن هنا فالإله على فرض وجوده قد خلق الطبيعة ثم انسحب من المشهد، ولم تعد له علاقة بالكون، والإنسان هو من له السيادة والسيطرة، ومن ثم فالمعرفة هي القوة والتغيير وإحكام السيطرة، وفي هذا السياق تكون الوضعية والبراجماتية أدوات عادية في يد السيادة الجديدة على الكون والحياة، وتَنْبَتُّ العلاقة بين القيمة والواقع، وكذلك بين السياسي والقانوني وبين الأخلاقيّ([2]).
والليبرالية التي تشاركت مع الحداثة في الكثير من أسسها ومعطياتها كالعقلانية والفصل بين السياسيّ والأخلاقيّ، زادت على ذلك أصولا وأسسا زادت من بعد الشقة بين القديم والجديد، منها مبدأ الفردية؛ حيث تجعل من الفرد القيمة الأساسية والمركزية في الوجود المجتمعيّ، ومن ثم تلغي من حسابها قيمة الجماعة وما يرتبط بها، ومنها كذلك النّزوع نحو تحرير الفرد، ليس الفرد الإنسانيّ بصورة عامَّة بل الفرد المالك بمدلوله الاقتصاديّ، ومع استفحال الحداثة في القرن التاسع عشر “أخذ معنى الحرية منحى أكثر مادية، وهو حرية الفرد بالنظر إلى كونه كائن اقتصاديّ، وهو معنى أبعد عن القيم الإنسانية وأقرب إلى القيم النفعية الكمية … هذا التطور في المفهوم الليبرالي للحرية أدّى إلى تدهور شديد في القيم الليبرالية، وتخلف شديد في المنظومة الأخلاقية … لن نبالغ لو قلنا: إنّه لم يسبق لمذهب فلسفيّ أن ابتذل الأخلاق وحول قيمها إلى أن تُعَايَرَ بأوراق البنكنوت مثلما فعلت الليبرالية بنزعتها البنثامية الموغلة في رؤيتها النفعية”([3])، وهذا البعد الموغل في الابتعاد عن القيم والأخلاق أثر من آثار الحداثة.
ولو أنّنا أمعنا النظر في هذه المقولات لتبين لنا أنّ لها روحا تم تجاوزها مع ردة الفعل العنيفة ضد الممارسة الدينية الثيوقراطية الكنسية، وضد الخرف اللاهوتي الذي كانت المسيحية المبدلة تشيعه في الأجواء الدينية والثقافية، هذه الروح هي روح التحديث والتجديد، روح النقد والتقويم والإبداع، هي الروح التي تبعث العقل من سباته، وتحيي الإنسانية بأبعادها الفطرية كالكرامة والحرية والتميز، ولا ريب أنّ هذه الروح التي تمّ تجاوزها في الغرب؛ بسبب عدم قدرة الدين هناك على التفاعل معها بإيجابية، هذه الروح تنسجم تمام الانسجام مع الإسلام؛ فهل بالإمكان مواجهة الموجات الحداثية التي تجاوزت هذه الروح، والتي هبّت على العالم الإسلاميّ بالنَّفَسِ الحداثي في الغربي وبآليات وتقنيات الحداثيين في الغرب، هل بالإمكان مواجهتها بكشف زيفها من الأساس؛ عَبْرَ بيان انقطاع صلتها بروح الحداثة؟
هذه هي الفكرة التي انطلق منها الفيلسوف والمفكر الإسلاميّ المغربيّ الدكتور “طه عبد الرحمن”، الذي اشتهر بمواجهته للحداثة والفكر العلمانيّ، وبانتصاره للأخلاق، وهو من القلائل الذين أفادوا من الفلسفة في نصرة الدين والقيم والأخلاق، وقد وضع كتابه الشهير “روح الحداثة .. المدخل إلى تأسيس الحداة الإسلامية” وقد طبع هذا الكتاب ونشر عام 2006م، وكان لصدور هذا الكتاب صدى واسعٌ في عالم الفكر العربيّ؛ ولعل جِدّة المنهج وحداثة المدخل كان لهما بالغ الأثر في شهرة الكتاب.
وربما كان من دوافع تأليفه لهذا الكتاب ما اقترفته – ولا تزال تقترفه – الاتجاهات الحداثية في حق التراث العربيّ والإسلاميّ، سواء المستشرقون منهم أمثال: جولدتسيهر – نيللينو – شاخت – بروكلمان – مرجليوث – فان إس – كريمر، وغيرهم، أو المتغربون أمثال: محمد أركون – محمد عابد الجابري – أحمد أمين – حسن حنفي – نصر حامد أبو زيد – رضوان السيد – عبد المجيد الشرفي – محمد شحرور، وغيرهم.
هؤلاء الذين – باسم التجديد – عبثوا عبثا شديدا بمحتويات النصّ القرآني والنبويّ، فانحرفوا بالشريعة وبالدين كله عن المنهج السويّ، هؤلاء الحداثيون حاولوا إخضاع النَّص لمناهج النقد الحداثية التي تأثرت بتلك الأسس الحداثية التي ذكرناها آنفا، فاعتمدوا – على سبيل المثال – تقنيات “الفليلوجيا” وهي البحث في النصوص عبر وضعها في سياقها التاريخيّ مع مقارنتها بما سبقها من نصوص، وليتهم إذْ اعتمدوا هذه التقنية في الدراسة البنيوية للنص كانوا مستقلين غير مقلدين للغرب ولا متأثرين بدوافعهم، ولكنّهم كانوا مقلدين تابعين ناقلين لا مبدعين؛ لذلك ركزوا أثناء قيامهم بالتحليل الفيلولوجي على ذات الأدوات التي استعملها المستشرقون الأوائل الذين صاحبوا الإمبريالية، مثل: التوفيد الفليلوجي للأصول، والتسييس الفليلوجي للنص.
وهذا هو عين ما ينعيه عليهم طه عبد الرحمن ويدعوهم إلى حداثة لا تقليد فيها ولا تبعية ولا إمعية، ويراهن بدعوته هذه على الإسلام نفسه؛ أنّه ينسجم مع روح الحداثة التي تم تجاوزها باندفاع فلاسفة الغرب بروح المعاداة للدين في الاتجاه المعاكس له تماما، واندفاع مقلديهم في الشرق بروح التبعية والتقليد للغالب في ذات الاتجاه الذي يزهو بمعاداة التراث والترصد له، وإن كان يتستر بالتجديد، وما ذلك بالتجديد وإنّما هو التضييع والتبديد، ونحن بحاجة إلى تجديد لا تبديد، وقد صدق الأمير شكيب أرسلان عندما قال: “فَقَدْ أَضَاعَ الإسلامَ جامدٌ وجاحدٌ”([4])، فالجاحد ينتهج التبديد، والجامد يرفض التجديد.
والعجيب الذي يثير الدهشة أنّ النظريات التي يتبناها الحداثيون العرب تقليدا لأئمتهم في الغرب “لم يطبقها الغربيون أنفسهم في تفسير تشريعاتهم؛ فكيف نطبقها نحن في تفسير شريعة الله؟! بل لم تطبقها عامة الكنائس الغربية في تفسير كتابها المحرف؛ فكيف يراد منا نحن تطبيقها في تفسير كتاب الله المحفوظ؟! بل إنّ عامّة الباحثين الغربيين أنفسهم الذين يدرسون التراث الإسلاميّ يرون هذه النظريات التأويلية الغربية “زيّاً أو موضة عابرة” فكيف يوجد فينا من يستبدل علميّ الدلالة (أصول الفقه والبلاغة) وما فيهما من الانتاج الجاد المتبحر والاختبار الزمني الطويل بهذه الموضات التأويلية غير المبرهنة”([5])؟!
ولقد استفاض الدكتور طه عبد الرحمن في الحديث عن روح الحداثة؛ وكان حديثه منتجاً على وجه اليقين لجملة من الحقائق الكلية، التي تميز روح الحداثة وتفصلها عن الممارسات البعيدة عن هذه الروح، من هذه الحقائق التي تعتبر نواميس عامّة: “فلا تكون الحداثة إلا ممارسة داخلية مبدعة … والحق أنّه لا حداثة مع وجود التقليد”([6]) “الحداثة بلا وصاية أوفى بروح الحداثة”([7]) “أصدق الإبداعات ما بلغ فيه ازدهار الذات نهايته”([8])، والحقُّ يقال: إنّ هذه القواعد الكلية معايير للحداثة الصادقة؛ لذلك هي كاشفة عن زيف الدعوات التي يتبناها الحداثيون في مواجهة النص باسم تجديد الدين، وكاشفة كذلك عن مخالفة الجميع لروح الحداثة، بل وللعقل وللمنهج العلميّ ذاته، سواء في ذلك المستشرقون، أو المتغربون المقلدون لهم والفاقدون لذواتهم.
وبالطبع لم ينس الرجل وهو يتحدث عن روح الحداثة ويحاول تعريفها، لم ينس أن يقرر مبادئها الرئيسية من وجهة نظره، وهي عنده ثلاثة: الرشد والنقد والشمول، فالرشد قائم على ركنين: الاستقلال والإبداع، والنقد قائم على ركنين: التعقيل والتفصيل، والشمول قائم على ركنين: التوسع والتعميم([9])، ثم بعد هذا التقرير للمبادئ يرتب النتائج فيقرر أنّ ثَمَّ تفاوتًا بين روح الحداثة وواقعها الحاليّ، ويؤكد على خصوصية واقع الحداثة الغربية وكونها لم يبق منها إلا صورة واحدة لتطبيق الحداثة([10])؛ فيكون التقليد لواقع الحداثة دون الرجوع إلى روحها ضارا بالمنهج العلميّ، ويكون اتباع ذات الصورة للحداثة التي تقع في الغرب ظلم للتراث وعدوان على النصّ بلا مسوغ.
ثم انتقل إلى الشروط التي يتحقق من خلالها التطبيق الإسلاميّ لروح الحداثة، فتكلم عن الشروط الخاصة للتطبيق الإسلاميّ لمبدأ الرشد، وهي: الانتقال من الاستقلال المقلد إلى الاستقلال المبدع([11])، والانتقال من الإبداع المقلد إلى الإبداع المبدع، وتكلم عن الشروط الخاصة للتطبيق الإسلاميّ لمبدأ النقد، وهي: الانتقال من التعقيل المقلد إلى التعقيل المبدع([12])، والانتقال من التفصيل المقلد إلى التفصيل المبدع، وتكلم عن الشروط الخاصة للتطبيق الإسلامي لمبدأ الشمول، وهي: الانتقال من التوسع المقلد إلى التوسع المبدع، والانتقال من التعميم المقلد إلى التعميم المبدع([13]).
وبعد أن صور العولمة الواقعة الآن تصويرا دقيقة في قوله: “العولمة هي تعقيل العالم بما يجعله يتحول إلى مجال واحد من العلاقات بين المجتمعات والأفراد؛ عن طريق تحقيق سيطرات ثلاث: “سيطرة الاقتصاد في حقل التنمية” “سيطرة التقنية في حقل العلم” “سيطرة الشبكة في حقل الاتصال”([14])، طفق في هجمة خاطفة كانقضاض النَّسر؛ يتحدث عن شروط الأخلاق التي يجب أن يعمل الجميع بشتى الوسائل على غرسها لمقاومة النزعة المادية النفعية للعولمة فذكر ثلاثة شروط: أن تكون مستمدة من مصدر خارج هذا النظام العالميّ حتى لا يحتويها ويكيفها لخدمة مشروعه، وأن تستقى من مصدر أعلى وأقوى، وأن تكون أخلاقا كونية عالمية .. ثم أثبت أنّه لا يصلح لها إلا الإسلام([15])، وهذا توجه فيلسوف منصف يعتزُّ بدينه ويدعو إليه في ميدان الحداثة غير هَيَّابً ولا وَجِلٍ.
وعلى مدى صفحات عديدة انثنى ينعي على الحداثة أنّها فصلت الأخلاق عن الدين؛ وذلك بغرض إخضاعها الدائم لقانون االتطور، ثم لخص الأسس الثلاثة التي حكمت عملية الفصل النكدة تلك فلخصها في: النظر إلى الإنسان لا إلى الإله، والنظر إلى الدنيا لا إلى الآخرة، والتوسل بالعقل لا بالشرع([16])، والحقيقة أنّ هذا الفصل عسف ومعاظلة وتجديف بالباطل، لأنّ مصدر الأخلاق قبل كل شيء هو الدين، بل إنّ أخلاقيات اللادينيّ ترجع في مصدرها إلى الدين، لقد غربت الشمس حقاً، لكنّ الدفء الذي يشع في جوف الليل مصدره شمس النهار السابق، إنّ الأخلاق دين مضى كما أن الفحم في باطن الأرض حصاد قرون ماضية([17]).
وبينما هو في معرض انتقاد الأساليب الحداثية في التعامل مع النص القرآنيّ أصدر هذا التصريح الذي يكشف النوايا ويشير إلى موضع العلة: “فالقراءات الحداثية لا تريد أن تحصل اعتقادا من الآيات القرآنية وإنما تريد أن تمارس نقدها على هذه الآيات”([18])، والحقيقة الواضحة أنّ هذا الدافع الخبيث لدى الحداثيين تجلى في طريقة تعاملهم مع النصوص، وهذا يظهر للمتابع بعين ناقدة؛ لأنهم يسلكون سبلا غائصة في النفاق، فانظر مثلا إلى محمد شحرور وهو يوسع لنفسه بهذا الادعاء: “قانون التطور يسري على كل شيء بما فيه اللسان العربي المبين الذي صيغ به التنزيل الحكيم، وأنّ التنزيل الحكيم حوى مراحل تطور اللسان العربيّ السابقة، وأعطى خطوطا لمراحل تطوره اللاحقة”([19])، وذلك بغرض التصرف في دلالة النص بما ينتج الأفكار المضادة لمضامين النصّ، وليتسنى له ولأمثاله إبطال الدين: فلا الصلاة التي نصليها هي ما دلت عليه النصوص ولا سار العبادات ولا الشعائر والشرائع؛ لأنّها جميعا من الفقه!
والفقه عمل بشريّ؛ فلا إشكال أن يكون لنا فقه معاصر غير ذلك الفقه البدويّ، فانظر ماذا يقول عبد الحميد الشرفي أحد أكبر دعاة الحداثة في المحيط العربيّ عن شعيرة الصيام: “نلاحظ أن الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير ينص صراحة على أن منع التخيير بين الصوم والإطعام إنّما كان بالإجماع، لا عن طريق ما يقوله النَّص بل لأن علماء المسلمين أجمعوا على ذلك؛ أي هي عملية بشرية لا فرض إلهي … تعترض المسلمين اليوم في أداء هذه الفريضة مشاكل حقيقة، أولا: لأن هذ الحياة المعاصرة تفرض العمل في ظروف مناخية قاسية جدا أحيانا عندما يكون الطقس حارا، وبدن الإنسان محتاج باتفاق كل الأطباء إلى الماء في هذه الفترة”([20])! فهذه دعوة لإبطال شعيرة الصيام بزعم أنّ النص القرآنيّ يحتمل ذلك وأنّ الفقه – ولو بالإجماع – القديم هو الذي تعنت في فهم النصّ.
ولم يكتف الفيلسوف طه عبد الرحمن بإجمال النقد؛ حتى فصل في كشف الأساليب والألاعيب، فها هو يناقش على مدى صفحات عديدة خطط واستراتيجيات وتقنيات القراءات الحداثية للنص القرآنيّ، وتوصل إلى أنّها تعتمد على ثلاث خطط: الأولى: الأنسنة، الثانية: العقلنة، الثالثة: الأرخنة، فأمّا الأنسنة فتهدف إلى رفع عائق القدسية عن النص القرآنيّ، وذلك بآليات عدة منها حذف عبارت التعظيم للقرآن الكريم، ومنها خلق مصطلحات جديدة للتعبير عن القرآن مثل: المدونة الكبرى، ومنها: التسوية في رتبة الاستدلال بين كلام الله وأقوال البشر، ويؤدي ذلك إلى جعل النص القرآنيّ نصا لغويا كأيّ نص بشريّ؛ بما ينتج عنه أن يصير النصّ القرآني نصا إجماليا إشكاليا يقبل تأويلات غير متناهية، وأمّا العقلنة فتهدف إلى رفع عائق صدور القرآن عن جهة غيبية، وتميزه بأنّه وحي لا يخضع لنقد العقل، وذلك يتم بآليات عدة، منها: نقد علوم القرآن ومنها التوسل بقواعد علوم الإنسان لفهم النص، ومنها التوسل بعلوم مقارنة الأديان، ومنها إطلاق سلطة العقل على النص؛ وينتج عن ذلك: تغيير مفهوم الوحي ومقتضياته، وتجاوز الآيات التي يرونها مصادمة للعقل، وأمّا الأرخنة فتعني إزالة عائق الحُكمية باعتقاد أنّ النص مرتبط بسياق تاريخي معين وظروف بيئية محددة، وذلك يتم عبر آليات، منها: توظيف المسائل التاريخية في تفسير النصّ، ومنها تغميض مفهوم الحكم، ومنها تقليل عدد الآيات المحكمات وعدد آيات الأحكام، ومنها إضفاء النسبية على آيات الأحكام، وغير ذلك، وينتج عن هذا إبطال مسلمة أن القرآن تبيانا وبيانا وفرقانا، وحصر القرآن في التوجيهات الباطنة، وعدم إلزامية الأحكام، والدعوة لتحديث الدين([21])، وهذه في الحقيقة تقنيات التأويل الحداثي للنصوص.
وبعد هذه الجولة الواسعة العميقة يكرُّ بالنقد لهذه المناهج العقيمة التي تلبس لبوس الحداثة؛ فتكلم على مدى صفحات عن العيوب المنهجية عند الحداثيين الذين يمارسون قراءة النص القرآنيّ، فذكر منها: فقد القدرة على النقد الصحيح العادل، وضعف استعمال الآليات المنقولة، والإصرار على العمل بالآليات المتجاوزة، وتهويل النتائج المتوصل إليها، وقلب ترتيب الحقائق الخاصة بالقرآن الكريم، وتعميم الشك على كل مستويات القرآن الكريم، وهذه العيوب تؤكد تقليدهم الأعمى لطرائق الغرب وأساليبه في التعرض لنصوص الدين المسيحي([22]). ويعود بعد هذه الجولات لتقرير الحقيقة التي تعد خلاصة بحثه: “مقتضى الحداثة الإسلامية يضاد مقتضى الحداثة الغربية”([23])، وإنّني أدعو القارئ الكريم لقراءة الكتاب، ولتأمل فكرة الكتاب وما ورد فيه من دعوة إلى العودة إلى روح الحداثة وهجر الأساليب الحداثية التي تجاوزت روح الحداثة، ولمناقشة الدعوة مناقشة علمية جادة، ولاسيما مع تصاعد الدعوات للتجديد الصحيح بعيدا عن الانحراف والمنحرفين
([1]) ر: الأسس الفلسفية للحداثة – دراسة نقدية مقارنة بين الحداثة والإسلام – صدر الدين القباجيّ – صـــ 17- 34
([2]) ر: الدولة المستحيلة – الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي – وائل حلاق – ت عمرو عثمان – المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – صــــــــــــــ 150 وما بعدها
([3]) ر: نقد الليبرالية – د. الطيب بو عزة – ط مجلة البيان – الرياض – ط أولى 2009م – صـــــــ 151
([4]) لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ – الأمير شكيب أرسلان – دار مكتبة الحياة – بيروت – لبنان – بدون تاريخ – صــــ88
([5]) التأويل الحداثي للتراث (التقنيات والاستمدادات) – إبراهيم السكران – دار الحضارة – الرياض – ط أولى 2014م صـــــ38
([6]) روح الحداثة .. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية – طه عبد الرحمن – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – ط أولى 2006م صــــ35
([7]) روح الحداثة .. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية – طه عبد الرحمن مرجع سابق صــــ38
([8]) روح الحداثة – طه عبد الرحمن – مرجع سابق صــــ41
([9]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ25-29
([10]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ30-31
([11]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ 36-41
([12]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ 42-53
([13]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ 54-68
([14]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ 78
([15]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ 86
([16]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ101
([17]) ر: الإسلام بين الشرق والغرب – على عزت بيغوفيتش – ت محمد يوسف عدس – مؤسسة بافاريا للنشر والإعلام – ط ثانية 1997م صـــــــ209
([18]) ر: روح الحداثة – مرجع سابق صــــ176
([19]) الدولة والمجتمع – محمد شحرور – دارالأهالي – دمشق – بدون تاريخ – صـــــ92
([20]) مرجعيات الإسلام السياسي – عبد المجيد الشرفي – التنوير للطباعة والنشر والتوزيع – تونس و لبنان – ط أولى 2014م صــــــ84-85
([21]) ر: روح الحداثة المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية – طه عبد الرحمن – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – ط أولى 2006م صــــ178-188
([22]) ر: روح الحداثة .. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية – طه عبد الرحمن – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – ط أولى 2006م صـ190 وما بعدها
([23]) ر: روح الحداثة .. المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية – طه عبد الرحمن – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – ط أولى 2006م صـ194 وما بعدها