الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ليس من “التجديد” أن نَظَلَّ دومًا نُكَرِّسُ جهدنا في التَّقْنين الذي يواجه مشكلاتٍ، نعلمُ علمَ اليقين أنّها نتجت عن أوضاع منحرفة أقرتها الأنظمة، إنّما يكون التجديد بثورة فقهية على هذه الأوضاع وعلى الأنظمة التي أنتجتها، صحيحٌ أنّ تلقي النوازل والمستجدات وعلاجَها في ضوء القواعد الشرعية يُعَدُّ أحد قنوات الاجتهاد والتجديد، ولكن عندما تكون هذه النوازل ناشئةً عن اتجاهات منحرفة عن الفطرة وعن منهج الله تعالى يكون سبيل الاجتهاد والتجديد فيها بالعودة إلى جذورها، والأزمة المتعلقة بكدّ المرأة وتعبها وشقائها ترجع إلى إخلال الأنظمة بقواعد العدالة الاجتماعية؛ مما أفضى حتما إلى انحياز الثروة إلى جانب أصحاب السلطة والمقربين منهم، بمنأى عن عموم الشعب الكادح دوما والمكابد أبدا.
وفي هذا السياق جاء مقالي في الرد على من يريدون تقنين “حق الكَدّ والسعاية” في مصر، فهذا التوجه يأتي في سياق حملة هوجاء منظمة؛ تهدف إلى خلخلة بنيان الأسرة باسم الدفاع عن حقوق المرأة، فما كاد شيخ الأزهر يطلق تصريحة ذاك حتى وجدنا تصريحات أخرى لسعد الدين الهلالي تثير جدلا فقهيا قديما حول حكم خدمة المرأة في بيت زوجها؛ بغرض التوسع في التقنين الذي يشمل فيما يشمل حق الزوجة ربة البيت في خدمة زوجها وتربية أولادها، وإلى جانب هذا وذاك نداءات هنا وهناك بالبحث عن طريقة للقوننة تتعالى في شبق ونزق؛ لذلك أوردت في مقالي السابق عن حق الكدّ والسعاية ما يمكن أن أختصره في النقاط التالية:
أولا: لا وجود في أحكام الشريعة الثابتة لما يطلق عليه “حق الكد والسعاية”، إنّما هي فتوى تنسب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ويُروى أنّه أفتى بها في واقعة جزئية، ولا وجود لمثلها في الفقه الإسلاميّ إلا في سياق فتاوى ونوازل فردية متأخرة، وشَتّان بين الفتوى الخاصة أو الأقضية المتغيرة وبين الحكم الشرعي العام الثابت المستقر.
ثانيا: لا نخالف في أنّ للزوجة ذمّة مالية مستقلة، ولا ننازع في أنّها حرة التصرف في مالها كله دون حجر من الزوج عليها، وهذا حقها لا يملك أحدٌ أن ينزعه منها، وهو من الحقوق الكثيرة التي تثبت للمرأة بأصل الفطرة، وقد ردها عليها الإسلام العظيم بعد عدوان الجاهليات المتتابعة عليها.
ثالثا: الشريعة الإسلامية غنية في أبواب المعاملات بما يحفظ الحقوق بين كافّة المتعاملين في جميع صور التعامل الماليّ، وعليه فإذا كان للمرأة مال – سواء أتت به من بيت أبيها أو دخل عليها بميراث أو اكتساب – فهي صاحبة القرار في هذا المال لا يشاركها زوج ولا غيره، فإن طابت نفسها عن شيء منه للزوج تموله هنيئا مريئا، وإن ضَنّت به أو ببعضه لنفسها لم يكن للزوج ولا لأهله ولا لورثته الحق في التصرف فيه، وأساليب الحفظ والتوثيق في الشريعة كافية ووافية، والدعوى فيه دعوى مالية لا علاقة لها بدعاوى الأسرة وقضائها، وليس ثَمّ حاجة إلى ابتداع قانون خاص نسميه قانون (حق الكدّ والسعاية)؛ لأنّ وفاء التشريع الإسلامي بكل هذه الأمور لا يحتاج إلى نقاش أو جدال من أجل إثباته أو التدليل عليه، ومن المؤكد أنّ الفتاوى السابقة في الوقائع العارضة بنيت على تلك التشريعات.
رابعا: أمّا الحالة العُرْفية المستقرة في المجتمع المصريّ، وفي كثير من المجتمعات العربية، والمتمثلة في سعي الزوجين وكَدّهما من أجل تحقيق قدرٍ ولو قليل من الحياة الكريمة، ومن أجل التعاون في مواجهة تحديات الحياة وصعوباتها، فإنّه يصعب تنظيمها عبر قانون ينبثق عن تلك الفتوى، وخروج الزوجة للعمل تضحية من جانين لا من جانب واحد، فكما تضحي الزوجة يضحي الزوج بكثير من حظه في زوجته وحقوقه عليها، ويضطر للتعاون معها في كثير من اختصاصاتها من أجل أن يمضي مركب الأسرة آمنا.
وغالبا ما يتراضيان على ذلك، وغالبا ما يقيمان هذه العلاقة على أنّهما شخص واحد وذمة واحدة، وهذا لا بأس به؛ إذ الأصل في العلاقات الأسرية المسامحة لا المشاححة، أمّا الاستثناء القليل النادر فهو حالات تطالب فيها المراة بأن تحتفظ بحقها أو براتبها، فإن وافق الزوج على ذلك وَثَّقا بوسائل التوثيق المتاحة، وما أكثرها! وإن لم يوافق قعدت في بيتها وأراحت واستراحت، فإن اضطر إلى عملها توصل معها إلى اتفاق، وإلا كان قرارها في البيت حلا ناجعا وحاجزا مانعا من تجدد الخلاف، وعمل المرأة بغير إذن زوجها لا خلاف في منعه.
خامسا: أمّا التدخل السافر الفج في شأن الأسرة باسم الدفاع عن حقوق المرأة فهو تفخيخ للأسرة وتلغيم لبنيانها، فإنّ تقنين فتوى كهذه وإنشاء عقود بين الزوجين على أحكام ذلك القانون يؤدي إلى مفاسد أسرية واجتماعية جمّة، وليس من الرشد تستيف القوانين وتعقيد الحياة بها، إذْ المتفق عليه بين الحكماء جميعا أن القوننة إذا جاوزت حدها عقدت الحياة ثم لم تفلح في كبح جماح المخالفات.
سادسا: ولسنا ندري ما هو الفرق بين الرجل والمرأة في حياتنا من حيث الظلم الواقع على كل منهما، إنّ المرأة في مجتمعنا لا تشتكي من الرجل، وإنّ الرجل لا يشتكي من المرأة، وليس لأحد تجاه الآخر قضية، إنّما القضية هي قضية المجتمع كله رجالا ونساء تجاه الظلم الواقع على الجميع من الأنظمة، والذي يُعْزَى إليه كل ما يتعرض له الرجال والنساء من عنت في هذه الحياة، لقد أطاحت الأنظمة المستبدة الغاشمة بآمال الشعوب ووأدت أحلام الشباب والفتيات، ثم انثنت تَدُسُّ أنفها في حياة الأسرة التي يحاول فيها الزوج والزوجة أن يتراحما من أجل جبر الكسور والتشوهات التي أحلها النظام بجسد الحياة.
فهذا مجمل ما ذهبت إليه في المقال السابق، وقد قام المحترم الدكتور “أحمد كافي” بالردّ على مقالي هذا، فاستفاض الرجل – وجزاه الله خيرا – في سرد كتب النوازل التي تعرضت للفتوى وما ترتب عليها من تقرير لحقّ الكدّ والسعاية، وليس لديّ أدنى اعتراض على ما تفضل به، ولكنّ اعتراضي على ثلاثة أمور:
الأمر الأول: كل ما تفضل به – مع إجلالنا لقدره من جهة كونه جهد فقهي – لا يغير من حقيقة الأمر شيئا، فهي فتوى في واقعة جزئية، بل هي حكم قضائي صدر من أمير المؤمنين باعتباره القاضي الأعلى في الدولة، في قضية فردية خاصة، ومثل هذا لا يعتمد عليه في تقنين قانون وحكم ثابت مستمر، وإنّما يصلح لأن يُسْتَدَلَّ به في وقائع جزئية، فليس تشريعا ثابتا مستقرا؛ وعليه يجب أن ينحصر جهدنا في مواجهة جذور البلاء، التي تسببت في مظاهر ظلم النساء، مع علاج القضايا الجزئية والوقائع الخاصة بقضاء جزئي يعتمد على ما ورد في الشريعة من قواعد وأحكام منظمة للعدالة وحامية للحقوق.
الأمر الثاني: هذا الإسهاب الشديد في ذكر المصادر الفقهية من كتب النوازل المالكية ما سببه؟ ألمجرد إثبات وجود الفتوى؟ فالحقيقة أنّني لم أقم قطّ بنفي وجود الفتوى – والمقال موجود ومنشور – وإنّما قلت إنّها فتوى وليست حكما شرعيا ثابتا، وقصدت بعزوها إلى أحد متأخري المذاهب “ابن عرضون” رحمه الله، الذي أخذ عنه كثير ممن قال بها، والنفي الباتّ كان متوجها إلى شيء آخر وهو أن يكون ذلك حكما شرعيا ثابتا مأخوذا من مصادر التشريع كالكتاب والسنة والإجماع والقياس، مثبتا في المذاهب الفقهية كحكم ثابت لا فتوى جزئية، وقد قلت عن واقعة قضاء أمير المؤمنين أنّها يُختلف في ثبوتها، وهذا حقٌّ، فهي بمقاييس علوم الحديث قابلة لأن يُختلف في ثبوتها، واتجاه كلامي كله مُنْصَبٌّ في اتجاه أنّها فتوى جزئية أو حكم قضائي في واقعة خاصة، وليس من الفقه ولا الحكمة ولا رعاية المقاصد أن يتم التقنين بناء عليها، فينبغي أن يتجه الحوار إلى هذا الجوهر دون أن نسلك سبيل التمطيط والتطويل؛ وعليه فلو أتى سعادة الدكتور المحترم بأضعاف ذلك من المصادر لن يخرجها عن هذا الإطار الجزئيّ.
الأمر الثالث: ما عَدّه فضيلة الدكتور أمورًا هامشية؛ فتجاوزها ليركز فقط على إثبات ورود الفتوى – وهو ما لم أنكره – ليس من قبيل الأمور الهامشية؛ وما قيمة المعالجة الفقهية إن لم تضع الوقائع التي تروم معالجتها فقهيا في سياقها الواقعيّ؟ لتتجلى أسباب إثارة الإشكالات وما وراءها من دوافع، وليتضح واقع السلطة والمجتمع والأسرة، وما بينها من تدافعات؟!
وقبل أن أنشر هذا الردّ رأيت الدكتور قد أردف مقاله السابق بمقال آخر، وفيما يبدو أنّ الرجل يريد أن يستطرد – وهذا حقه – لكنني عندما نظرت في مقاله الثاني لم أجد جديدا، لم يأت الدكتور بجديد، إنّما أتى بالمزيد من المصادر التي تحدثت عن حق الكد والسعاية بناء على الفتاوى – التي لم أنكر وجودها – يتخللها بعض الوكزات والركلات التي يوجهها لي – وأَتَحَمَّلها منه إذْ العلم رحم بين أهله – لكنّ هذا الاستطراد في ذكر المصادر لا أحسب أنّ فضيلته لو زاد فوق المقالين أضعافهما من هذا النوع ما غير شيئا؛ لأنّني كما أسلفت لم أنكر ما يكرره ويقرره، إنّما فقط أنكرت أن يكون هذا حكمًا ثابتا يُبنى عليه تقنين، ومن يرى أنّه يبنى عليه تقنين وأنّ الشريعة ليست وافية في أبواب المعاملات بما يحمي حقوق المتعاملين جميعا بما فيهم أفراد الأسرة، فقد غلا في حسبة العواقب بما يوقع في الضرر الأشد فصار كالمستجير من الرمضاء بالنار .. والله المستعان.