لا يحبُّ الطغيانُ ظهورَ الحقيقةِ للناس؛ لأنّ في ظهورها التمهيدَ والتوطيدَ للقضاء عليه؛ لذلك لم تُصِبْ الرصاصةُ الآثمة رأسَ “شيرين” حتى كانت قد أصابت كبدَ الحقيقة وقلبَ الحرية ورأسَ السلطة الإعلامية، وهنا تتجلى حقيقة ما جرى للصحفية الراحلة، فإذا كان القرآن الكريم قد قرر أنّ: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} (المائدة: 32)؛ لأنّه في الحقيقة عدوان على حرمة النفس الإنسانية وسَنٌّ للجرأة على الدماء، فإنّ ما يتقرر بنفس الميزان القرآنيّ هو أنّ من قتل إعلاميًّا حرًّا أو سجنه أو ضيَّقَ عليه كان بمثابة من قتل الإعلام كله ووأد الصحافة برمتها؛ لأنّ هذا السلوك عدوان على الحقيقة وقدسيتها، وسَنٌّ للجرأة على قطع كل لسان أو بنان يخرج على الطغيان.
جلال الحقيقة وإجلالها
وثمّ سبب آخر لإجماع الخلق على بُكائها وشَجْبِ قاتليها، وهو إجلالُها للحقيقة، ذلك الإجلال الذي حلّ في سويداء قلبها وسكن في قاع نفسها وتمدد في ضميرها وشعورها؛ فلم تَعُدْ -لأجل ذلك- تبالي بالمخاطر التي تحُفّ بها والأهوال التي تَكْتَنِفُها، وغَدَتْ -مُذْ خرجت على الطريق ونذرت نفسها له- تتحرى الحقيقة في مظانّها، وتسافر وراءها في كل فجّ بعيد، وتسلك إليها كل سبيل وعرة، حتى نالت منزلة طالما ازْوَرَّ عنها وانْجَفَلَ منها كثير ممن تغطي الشوارب -وربما اللحى- وجوههم؛ فلا نامت أعين الجبناء، ولا استقر للأنذال وِطاءٌ ولا غطاء.
والحقيقة لها هذا الجلال، الذي يستوجب التقدير الإجلال، ويستدعي بذل النفس والمال، لأنّها من تجليات الربّ ذي الجلال؛ ومن هنا يستمد الإعلام الحرُّ مكانته ومنزلته، ويستمد الإعلاميّ الحرُّ أيضا مقامه الذي ينبغي أن يُغْبَطَ عليه، ويستشعر دوره الكبير الذي يحتم عليه أنْ يزدادَ كلَّ يوم مصداقيةً ومِهَنِيَّةً وأمانة وشرفا ووفاءً ونُبلا، وألّا يزيدَهُ مَرُّ الأعوام وكَرُّ الأيام عن الكذب إلا بُعدا ومن النفاق والتدليس والتزوير إلا نفورا وتجافيا، وألا تزيده الكروب والخطوب إلا شجاعة وثباتا وأناة وتؤدة وحلما وعزما، وعطاء وبذلا وإخلاصا وصدقا.
ضالة الشعوب
وإذا كانت الحقيقةُ هي ضالَّةُ الشعوب؛ فإنّ الإعلاميَّ الحرَّ حبيبُ الشعوب عدوُّ الطغاة، صديق الأحرار غريم الفجار، والفرق بين الإعلام الحر وإعلام الطغاة كالفرق بين هذين الفريقين المتنافسَيْن الْمُتَنَافِيَيْن: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} (النساء: 76).
إنّ التحدي الكبير الذي يواجه الإعلام الحرّ -الذي هو الإعلام حصرا- يتمثل في تنامي الرغبة في إخفاء الحقيقة مع التراجع الكبير على الساحة الدولية عن مبادئ الحريات وحقوق الإنسان وعن القيم التي رفعت شعارَها وأَعْلَتْ بنودَها الثوراتُ المعاصرة كافّة، ومِنْ بَعْدِها المواثيق الدولية عامّة؛ مما سيعود على الإعلام الحقّ بأثقال وأعباء وعوصف وأنواء، ومما سيكلفه مزيدا من الجهد والبذل ليواجه الإعلام المضاد إعلام الطغاة، ومعه سائر ما تسلح به الطغاة من أدوات العسف والجور والإجبار والقهر.
عَزاؤُنا الوحيد وعِياذُنا الفريد
ولنا عزاء ليس لعدو الحقيقة مثله، وهو أنّنا على الحقّ نحيا به ونموت عليه، وهل يكون الإنسان إنسانا إلا بهذا؟ وهل مَنْ يحيا ويموت على غير هذا إنسانٌ على الحقيقة، إنّه ليس إنسانا إلا بالتعريف والتصنيف “البيولوجي” للإنسان، أمّا الإنسان الحقّ الذي يحقق غاية الاستخلاف فهو الذي يمت إلى السماء بسبب مجدول ومفتول من خيوط الحقيقة، حسبنا هذا، ويكفينا أنّ الله يكفينا؛ فنحن عبيده وعباده والله لا يتخلى عن عباده الذين دانوا له بالحق والحقيقة: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} (الزمر: 36)، فالله عياذ الصادقين وملاذ المخلصين المدافعين عن الحقيقة.
وحتى عندما يسقط الإعلاميّ شهيدا للحق والحقيقة فإنّ موته هذا حياة للحقيقة؛ فهو -إذن- نصر لا هزيمة وحياة لا موت وعلو لا سفول، فإلى الأمام أيها الأحرار، لا تخافوا الظالمين ولا ترهبوا الفجار، قولوا كلمة الحق واصدعوا بالحقيقة، وقودوا الشعوب بالكلمة الصادقة والمواقف الثابتة لنيل حريتها ولتحقيق ما تريد من العدالة والكرامة الإنسانية، وحسبكم أنّ الله تعالى يراكم ويرى مكانكم، ويسجل أعمالكم، ويغرس في قلوب الشعوب محبتكم وتقديركم وتوقيركم، أمّا الطغاة المجرمون فالله مولانا ولا مولى لهم، والحق حليفنا ولا حليف لهم، والشعوب وراءنا وليس لهم فيها نصيب، وخطانا على درب الخير تمضي، وكلابهم في دروب الشر تنبح وتعوي، ألا يكفينا كل هذا لنمتلئ ثقة واعتدادا وطمأنينة؟!