لم تستطع “الفرمانات” أن توقف زحف الجماهير صَوْبَ الشعائر في عيد الفطر! كأنّ صيحات النذير حينما لامست أسماع الناس تُرجمت إلى دفقات تثوير! ما هذه الجملة التي صاغها الشعب بانسيابية وتلقائية وسلاسة ودفق ولياقة ولباقة، كأنّه النيل العظيم يسلك طريقه إلى غايته متهاديا بين ضفافه الخضر؟! حقا إنّ للقوة وجهًا آخر، وإنّ للأصالة ألفَ صورة تعبر بها عن نفسها، وإنّ الشعوب لقادرةٌ على فعل الكثير مما لا يمكن أن ترصده – فضلا عن أن تحصده – أجهزة الاستبداد.
القوى الخفية
لطالما عوّلنا على عوامل وظواهر كثيرة؛ وتناسينا في المقابل هذه القوى الثلاث الكامنة في التركيبة الإنثروبولوجية لهذه الأمّة، لم نبذل كثير جهد في اكتشافها أو في البحث عنها؛ لفرط تبديها وسرعة ظهور آثارها، الأولى: القوة الذاتية الكامنة في الإسلام، الثانية: القوة التلقائية الناعمة المسماة بإيمان العوام، الثالثة: الفطرة التي فطر الله العباد عليها، والتي يجلوها دائما ذلك النظام الشعائريّ الدائريّ المتجدد، الذي ينتظم عبادات وشعائر تهذب العقول والقلوب المشاعر والضمائر.
وعليه فمن راهن على جماعة أو حركة أو متغير من المتغيرات، دون أن يضع في حسابه هذه القوى الثلاث الكامنة في النسق السيكولوجي والسيسيولوجي لهذه الشعوب فسوف تختل حساباته وتتعرض الأهداف التي ينشدها لمخاطر الضياع والتبديد، ومن دقق النظر فيها وجدها مترابطة متماسكة يشد بعضها أزر بعض؛ مما يزيد من متانتها ويقلل من فرص الاستغناء عنها، فعلينا أن نضع مشروعنا ورؤيتنا مستصحبين هذه القوى الدافعة من المبدأ إلى المنتهى، ولاسيما أنّ هذه القوى لا تخضع للاحتكار ولا تدخل تحت سلطان جماعة أو حزب أو فصيل.
الفطرة المكنونة وإيمان العوام
وتلتقي الفطرة السوية مع القوة الناعمة الخفية، قوة الإيمان البسيط الذي نسميه في أدبياتنا “إيمان العوام”؛ لأنّ الفطرة التي فطر الله العباد عليها تغذي إيمان العوام وتقويه، وهو ما قد يحرم منه كثير ممن يفلسفون الأخلاق ويخضعونها للمصالح المادية؛ لذلك استسيغ ما نقله صاحب كتاب “الدين في السياسة الأمريكية” عن الحكيم الثائر “توماس جفرسون”: “ولو عرضنا قضية أخلاقية على فلاح يحرث أرضه وعلى أستاذ جامعيّ، سنجد أن الأول يعطينا حلا ربما كان أفضل من حل الأستاذ الجامعيّ، لأن الفلاح لم ينخدع ويضل بالقواعد المصطنعة المتكلفة”.
لذلك لم يكن غريبا ولا عجيبا أن يهتدي الشباب العربيّ الثائر في الساحات والشوارع والميادين إلى ما لم تهتد إليه الأحزاب والجماعات بمجالس شوراها ومكاتب إرشادها، حتى قيل إنّ الشارع مُلْهِمٌ، ولو أردت على ذلك دليلا فاسأل: عمَّن هتف أولا: “يسقط حكم العسكر” أهو الشارع الساذج المتدفق في تلقائية بريئة سالمة من الحسابات المعقدة؟ أم الجماعة بكل ثقلها ووزنها وأجهزة رصدها؟ هذا سوى ظاهرة النمو المتدرج الموزون بميزان الذهب في الشعارات، من “عيش حرية عدالة اجتماعية” إلى “الشعب يريد إسقاط النظام” إلى “يسقط حكم العسكر”!
إنّ هذه الشعارات – عند من يفهم الإسلام فهما شموليا ويفرق بدقة بين محكماته وفروعياته – تُعَدُّ بحق كلياتٍ شرعيةً أرسى من الجبال وأوسع من البحار وأرفع من السماوات العلا، فكيف اهتدى إليها الشارع العربيّ المتدفق الثائر؟ إنّها الفطرة عندما تتعانق مع القوة الخفية “إيمان العوام” وإنّهما إذْ يتعانقان ويتواصلان يجدان الدين القَيِّمَ بسيطا سهل المأخذ: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) فالدين القيم هو ما فطر الله العباد عليه، لذلك فإنّ التلاقي بين الصنوين: “الفطرة ودين العوام” وبين دين الإسلام سهل وبسيط ومباشر ودائم.
الإسلام والإفلاس المعاصر
يملك هذا الدين طبيعة جذابة قوية؛ لذلك اتفق المفكران الكبيران “محمد أسد ومراد هوفمان” في النبوءة القائلة بأنّ الإسلام سيملأ الفراغ الذي ستخلفه الشيوعية والإلحاد الغربيّ، وقد تحدث الفيلسوف المسلم “طه عبد الرحمن” عن شروط الأخلاق التي لا خلاص للإنسانية من النزعة المادية النفعية إلا بها، فذكر ثلاثة شروط: “أن تكون مستمدة من مصدر خارج هذا النظام العالميّ حتى لا يحتويها ويكيفها لخدمة مشروعه، وأن تُسْتَقَى من مصدر أعلى وأقوى، وأن تكون أخلاقا كونية عالمية”، وكل هذا لا يصلح له إلا الإسلام؛ لذلك فهو قادم بهذه الصلاحيات الكبرى.
إنّ أخطر ما تواجهه الحضارة المعاصرة هو الإفلاس الكبير فيما يتعلق بالإنسانيات، وعدم قدرة العلم الحديث على الإجابة على الأسئلة الكبرى التي لا قرار للنفس الإنسانية إلا بالحصول على إجابات مطمئنة حولها، وليس في التراث الغربي سواء المسيحي أو حتى اليونانيّ أو الرومانيّ ما يمكن اللياذ به، نقل صاحب كتاب “خواء الذات والأدمغة المستعمرة” عن “هنري أتلان” قوله: “انقشعت ضلالات القرن العشرين؛ وجعلتنا نفهم أنّ الحقيقة العلمية هي مجرد زخرفة للحقيقة” وعن أينشتاين قوله: “لا يوجد ما هو أكثر استعصاء على الفهم من أن يكون العالم مفهوما” وعن “وليام أوفلاس” قوله: “إنّ علم النفس الفرويدي أصبح المرض الذي يحتاج للعلاج! وإنّه حين أراد فرويد أن يبدد أوهام الدين فقد انتهى الأمر بأن أصبح من الضروريّ تبديد أوهام فرويد عن طبيعة الإنسان”.
غضبة صامتة
هذه القوى الكامنة كانت متوارية عن أنظار الكثيرين حتى أظهرتها ثورة العيد، فلقد كانت صلاة العيد وما سبقها من شعائر العشر الأواخر ثورة بكل المقاييس، كانت غضبة صامتة تبشر بغضبة ناطقة، وليس بينهما إلا أن يتحرك الواعون من أبناء هذا الشعب مستصحبين هذه القوى الخفية الناعمة، ويحسنوا تفعيلها في الشعب المصريّ والعربيّ، وفق استراتيجية متدرجة واعية وعلى ضوء رؤية رشيدة لا تفرق ولا تبدد، بل تجمع وتحشد، والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.