اجتمعوا ثمَّ انفضوا؛ فما اكترث أحد باجتماعهم، ولا التفت أحد لانفضاضهم!! أقْلَعت الطائرات ثمَّ حَطَّتْ، وحملت على ظهرها الرجال الثقال حتى أَطَّتْ، وانفسحت ساحات الفنادق وأَذِنَتْ لمطالب الضيوف الكبار وحُقَّتْ، وما تحرك ساكن في أرض الله تعالى على سعتها وامتدادها، وكثرة ما تَعِجُّ به وِهادُها وتَضِجُّ به نِجادُها من قضايا المسلمين ومشكلاتهم!! وتنافس “فرسان الكلمة!” حتى لم يَدَعُوا لمجتهد بعدهم في فنون الخطابة مساغا ولا مسلكا؛ فما الْتَهبت المشاعر ولا تأجَّجت الضمائر، ولا ترك أحد مضجعه الذي يأوي إليه مستريحا من صداع المواجهات وصراع التحولات!! وتبارى الإعلام بأدواته كافة في تغطية الحدث؛ فما اتسع له (أي الحدث الجلل!) خلف جدران القاعة الفسيحة المريحة شبر واحد، في عالم يموج بالأحداث ويضطرب بالأفعال وردود الفعل!!
كيف يقع هذا؟ وما هو السر؟ وأين موطن الخطأ وموضع الداء؟ سؤال تَسْهل الإجابة عنه لو كنت أرى في أحدهم – وإنهم لَكُثر – ثَلْمة يلام عليها أو زَلَّة يُعَيَّر بها، فَوَأَيْمُ الحقّ ما رأيت إلا رجالا ثقالا، لا أحسبهم إلا أصدق منّي وأسبق؛ لذلك يجب أن نكون جادين في البحث عن العلة الدفينة، وأن نتجنب التعميم والشخصنة، ونتحاشا المجازفة والمعاظلة؛ ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
في البداية يجب أن نعترف بوجود الظاهرة واضطرادها، واستقرارها واستمرارها، والأمر – للإنصاف – ليس قاصرا على (الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين) الذي أَشْرُف بالانتساب إليه، والذي اضطررت – لأجل ما نحن بصدده من هموم وأفكار – لاختزال مشاركتي في جمعيته العمومية في اليوم الافتتاحيّ فقط، وإنَّما يتسع ليشمل جميع الهيئات الإسلامية العلمائية على اختلاف مذاهبها ومشاربها. ولا أحسب أنَّ أحدا يخالفني في انعدام الأثر لكل هذه المؤسسات فيما يتعلق بمشكلات الأمَّة وقضاياها، وفي انفصالها التام عن الميادين العملية بمستوياتها كافة، وفي بعد الشُّقَّة بين ممارساتها وما ينتظره الجيل منها. فَمَن أقْعَدَهُ عن النهوض لإدراك هذه المسَلَّمة الواقعية إفراطٌ في حسن الظنّ، أو تفريطٌ في التحرر من الأوهام والأساطير؛ فلينتظر: ماذا عسى أن يسفر عنه مؤتمر “الإصلاح والمصالحة!” من نتائج واقعية، فإن رأى على أثر “المؤتمر!” أقرب الجماعات إلى “المؤتمرين!” قد أذعنت للوصايا وجمعت ما تناثر من أشلائها لتكيد باجتماعها وتوحدها أعداء الحق؛ فهو على حقّ، وجميع ما سطر في هذا المقال وهم وسراب.
وهذه الظاهرة المزعجة الغريبة على حسّ الأمة تتنافى تماما مع الدور المنوط بالعلماء في الشريعة الإسلامية. فالعلماء ليسوا مجرد دعاة ووعاظ ومعلمين ومرشدين، وإنما هم إلى جانب ذلك أولياء أمر المسلمين، وهم صلب أهل الحل والعقد الذين يناط بهم سياسة الأمة وتوجيه أحداثها وصناعة حاضرها ومستقبلها، وهم الذين عناهم الله بالدرجة الأولى في الآيات التي تأمر بالطاعة لأولى الأمر، وردِّ الأمور إليهم في سلمهم وحربهم وفرحهم وكربهم، فمن هذه الآيات:
1- قول الله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ” (النساء: 59)، فهذه الآية الكريمة تأمر المسلمين بطاعة أولى الأمر، وهذا يعني أن لهم نفوذا وسلطانا، وأولو الأمر هنا هم: “أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام؛ فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء والأمراء”.
يقول الإمام أبو بكر بن العربي: “والصحيح عندي أنهم الأمراء والعلماء جميعا، أما الأمراء فلأن أصل الأمر منهم والحكم إليهم. وأما العلماء فلأن سؤالهم واجب متعين على الخلق، وجوابهم لازم، وامتثال فتواهم واجب … وقد سماهم الله تعالى بذلك فقال: “يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ”… فأخبر تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم حاكم، “والرباني حاكم”، والحبر حاكم، والأمر كله يرجع إلى العلماء؛ لأن الأمر قد أفضى إلى الجهال، وتعين عليهم سؤال العلماء“.
ويقول الإمام الجصاص، بعد أن ذكر خلاف العلماء حول أولي الأمر؛ أهم العلماء أم الأمراء؟ “ليس بممتنع أن يكون هذا الأمر للفريقين… إذ ليس في تقديم الحكم بالعدل ما يوجب الاقتصار بطاعة أولي الأمر على الامراء دون غيرهم”، بل إن قوله تعالى بعد ذلك “فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول” يدل على أنهم العلماء؛ لأنهم الذين يعرفون كيفية الرد على كتاب الله وسنة رسوله.
ويقول ابن عاشور، مبينا طريق ثبوت صفة ولاية الأمر: “وطريق ثبوت هذه الصفة لهم إمّا الولاية المسندة إليهم من الخليفة ونحوه، أو من جماعات المسلمين إذا لم يكن لهم سلطان، وإمّا صفات الكمال التي تجعلهم محلّ اقتداء الأمّة بهم، وهي الإسلام والعلم والعدالة. فأهل العلم العدولُ من أولي الأمر بذاتهم؛ لأنّ صفة العلم لا تحتاج إلى ولاية، بل هي صفة قائمة بأربابها الذين اشتهروا بين الأمّة بها، لما جرب من علمهم وإتقانهم في الفتوى والتعليم”.
2- قول الله تعالى: “وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا” (النساء: 83). وأولو الأمر هنا أيضا هم الأمراء والعلماء. يقول الإمام الجصاص عن “قوله تعالى: “وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ”: “قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى: “هم أهل العلم والفقه”، وقال السدي: “الأمراء والولاة”، قال أبو بكر: يجوز أن يريد به الفريقين من أهل الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا، فإن قيل: أولو الأمر من يملك الأمر بالولاية على الناس، وليست هذه صفة أهل العلم، قيل له، إن الله تعالى لم يقل: “من يملك الأمر بالولاية على الناس”. وجائز أن يسمى الفقهاء أولي الأمر؛ لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه، ويلزم غيرهم قبول قولهم فيها. فجائز أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه، كما قال في آية أخرى: “لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ”، فأوجب الحذر بإنذارهم وألزم المنذرين قبول قولهم، فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم؛ والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه.
ومن هنا كان للعلماء دور كبير عند شغور الزمان من السلطان العام، وخلوه من إمامة جامعة تلتقي عليها كلمة المسلمين، يقول الإمام الجوينيّ: ” فإذا شغر الزمان عن الإمام وخلا عن سلطان ذي نجدة وكفاية ودراية، فالأمور موكولة إلى العلماء، وحق على الخلائق على اختلاف طبقاتهم أن يرجعوا إلى علمائهم، ويصدروا في جميع قضايا الولايات عن رأيهم، فإن فعلوا ذلك، فقد هدوا إلى سواء السبيل، وصار علماء البلاد ولاة العباد”.
هذا الدور الجوهري المؤثر المحرك هو الذي يخشاه ويتحاشاه النظام الدوليّ الذي تقوم مؤسساته وأنظمته على أساس مضاد تمام المضادة لما في رأس هؤلاء العلماء؛ ومن ثمَّ فلا بد من وضعهم في “ثلاجات” تُحَوِّلُهم إلى مجرد أجساد، وتَحُولُ بينهم وبين دِفء التغيير وحرارة التأثير، وتقطع الصلة بينهم وبين الشعوب، ولا سيما الشباب الغَلَّاب الوَثَّاب.. لنبقى هكذا أبدا؛ يدور حالنا بين فقه مقيد أسير، ونضال بلا وعي ولا منهجية في كل أفق يعن له يجمح ويطير، ويظل علماؤنا بين شجب وشجب؛ شجب لعدو متجبر وشجب لشباب متعثر.
لهذا يجب أن نبحث عن طريقة يتم بها تفعيل أداء العلماء ليحيوا دور أهل الحل والعقد الحقيقييين، لا المزيفين الذين استترت خلف صفق أكفهم نماذج من الاستبداد في صورة الحكم المتغلب. وهذا جهاد الوقت، وأراه من أوجب الواجبات؛ لأنَّ الأمة بغير هذا يصعب عليها الاجتماع، ويعز عليها العمل الرشيد لحل مشكلات الأمة ورفع شأنها، وإنَّه لمن المنطقيّ أن يقال إنَّ هذا العمل دونه الكثير من العقبات والعقابيل، لكن ليس منطقيا أن تستسلم الأمة الإسلامية وهي تواجه أخطر تحولاتها للصعاب، أو تذعن لما تمليه الظروف وتفرضه الأوضاع.
وليست باقي المؤسسات بمنأى عن النقد الذي يلحقها بالهيئات تلك في حكم الجيل عليها، فلقد غدت أكثر مراكز الأبحاث “أكشاك سبوبة” يجد فيها كثير من المحتالين أرزاقا واسعة ومراتع خصبة، هذا إن لم تكن مراكز ضرار؛ تبث المخابرات من خلالها جراثيم فكرية أخطر على جسد الأمة من الإيدز على الجسد الإنسانيّ. والمجامع الفقهية (على فضلها وأهمية دورها) وكذلك مؤسسات الدعوة ودور الإفتاء وغيرها.. جميعها تحسن وتجيد في كل ما لا يُزعج الأنظمة ولا يتعارض مع سيادتها وهيمنتها، فإذا وقع التعارض فإمَّا لانَتْ وتَرَخَّصت أو خَرَسَت وتَيَبَّست.
لا ألوم على الشعوب إذا أذعنت وخضعت وأسلست للمستبد قيادها، ولا على الشباب الأحرار إذا زَلَّت خطاهم وضَلَّت رُؤاهم؛ إذا غاب الدور الكبير لعلماء الأمة وكبرائها وأهل الحل والعقد فيها، ولا يحق لمن تخلف عن دوره أن ينعى على الآخرين تخلفهم أو انحرافهم، وهذا فقط تفسير لواقع تَتَرتب فيه المهام، لا تبرير لمخطئ ومُقَصِّر يَرْفَع عنه الملام.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: ما هو السبيل لتحرير العلماء من هذه الآسار والأغلال، وإطلاق سراحهم؛ لينطلقوا إلى أداء دورهم المنوط بهم مجتمعين متضامنين؟ هذا هو التحدي الكبير، وهذا هو واجب الوقت، وهذه هي الخطوة الأولى المنسية.