ليست سوى وجهة نظر، لذلك لا تُعَدُّ تَدَخُّلا في شُؤون الغير؛ إذ من حق كل إنسان أن يُبدي وجهة نظره في أيّ قضية فكرية أو علمية أو سياسية أو غير ذلك، ولا سيما إذا كان للقضية تعلق – ولو من وجهة النظر الشخصية – بالصالح العام للأمَّة أو بالوضع الإنسانيّ العام. فما دام الأمر لم يتعد إبداء الرأي إلى إقحام التصرف فلا ضير.
ووجهة النظر هذه تتلخص في أنَّ الأمَّة عليها واجبان تجاه تركيا، الأول: دعم استمرار العدالة والتنمية ودعم مشروعها النَّهضويّ المحافظ، والثاني: بذل النصيحة لهم والاجتهاد في ممارسة الحسبة السياسية عليهم. هذان الواجبان لكل منهما امتداد داخليّ يقف عند الحدود الجغرافية للدولة التركية بكل مكوناتها الثقافية والعرقية، وآخر خارجيٌّ يتجاوز الحدود الجغرافية إلى الحدود الاستراتيجية العابرة للقارات والمستغرقة لنسيج الأمَّة الإسلامية، بل والضاربة في ضمائر الشعوب العاشقة للحرية.
ولماذا تركيا بالذات؟ هذا سؤال له وجاهته وله ثقله، ومع ذلك فالإجابة عليه ما أسهلها وأَخَفَّها! لأنَّ تركيا في ظل حكم “العدالة والتنمية” قدمت النموذج الذي أثار رضى المحبين وسخط الحاسدين في آن، والتَّمَيُّزُ والتَّفَرُّدُ الذي حظي به هذا النموذج لم يعد يختلف فيه اثنان. وليس التميز في إحراز الأرقام العملاقة للنقلة الاقتصادية وحسب، ولا في مجرد إخراج الشعب من الضيق والفاقة إلى السعة والرفاه، ولا في الطفرة الصناعية والعمرانية والتجارية والسياحية فقط، وإنَّما إلى جانب ذلك كله تميز هذا النموذج بقدرته على الجمع بين أمور يَعِزُّ الجمع بينها في عالمنا هذا الموغل في الضبابية والتعقيد، كتحقيق قدر كبير من استقلال القرار السياسيّ دون الوقوع في فخاخ النظام العالميّ الذي يجيد بها اصطياد كل من سولت له نفسه الخروج من التبعية الكاملة له.
ولا أحسب أنَّ المعارضة التركية قادرة – ولو اجتمعت وتآلفت وحشدت كل قواها – على مجرد الحفاظ على تلك المكاسب، فضلا عن استدامتها أو تطويرها. وهذا واقع لا أحسب أنّ أحدا من المخالفين للعدالة والتنمية أو الناقمين على أردوغان – لسبب أو لآخر – يمكن أن يجادل فيه؛ لشدة ظهوره وفرط تبديه. ولا ريب أنَّ من حقِّ هذه الأحزاب أن تمارس الدعاية لبرامجها وأن تنافس على السلطة، ولكن من حقّ الناخب كذلك أن يقف على الحقائق وأن يحرز الإصابة في اختياره، وأن يكون متجردا لمصلحة بلاده؛ فيقدم من يراه أقدر على إدارة المرحلة المقبلة، ولا سيما في ظل التحديات العظام والمخاطر الجسام التي تتعرض لها تركيا هذه الأيام.
الذي ينبغي أن يتذكره الناخب التركيّ وأن يستحضره؛ هو أنَّ التغير الذي قد يطرأ في هذه المرحلة ليس من قبيل تداول السلطة كالذي يراه في الدول الغربية، لأسباب كثيرة لها تعلق بالواقع التركيّ ذاته، تجعله مختلفا عن الواقع الغربيّ اختلافا جذريا بما يمنع القياس ويحيل الاقتداء والاقتباس. وأضرب لذلك مثالا واحدا، وهو مثال ظاهر وبارز، ألا وهو العلاقات المدنية العسكرية، فإنَّها في الغرب مستقرة بآليات ونظم ومؤسسات وثقافات وتاريخ وممارسات، جميعها ليست متوفرة لتركيا، رغم نجاحها بقيادة أردوغان في تجاوز أزمة الانقلاب العسكريّ في تموز/ يوليو 2016م، والوضع الوحيد الذي يضبط هذه العلاقات هو قبضة الحزب الحاكم وعلى رأسه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان. فإلى أن تستكمل تركيا ما يجب أن تستكمله، لا ملاذ لها من مخاطر هذا الخلل – بعد الله – إلا استدامة النظام الحاليّ مع تشديد الرقابة وتطوير آليات الحسبة.
ناهيك عن أنَّ التغير – الذي إن وقع فلن يكون من قبيل تداول السلطة وإنَّما من قبيل تناسخ الأنظمة – سيُحِلُّ بمنظومة الدولة كَمَّا من الثقوب، بله الخروق، التي لن تستثني مؤسسة من مؤسساتها، ولن يفلت منها نشاط أو ميدان من ميادين الحياة؛ الأمر الذي له خطره على مجتمع منقسم ودولة تتعدد فيها العرقيات وسط مزدحم من العداوات الإقليمية، وفي كنف منطقة لم يسلم فيها بلد من الفتن والانقسامات إلا تركيا، أدام الله عليها الوحدة والسلامة والعافية.
وعلى غير الأتراك من الشعوب والدول واجب أيضا، يبدأ من الدعاء وينتهي بالدعم السياسيّ والاقتصاديّ، ويمر بتشجيع الاستثمار والسياحة وغيرها من الأنشطة التي من شأنها الإسهام في مرور تركيا من هذا النفق المفتعل، ولن يكون هذا تفضلا وامتنانا بقدر ما سيكون تعاونا والتحاما، فاستكمال تركيا لطريقها الرامي للاستقلال التام من كل الضغوط الدولية المصطنعة هو بمنزلة فتح طريق الاستقلال للجميع، والأمم – شاء حكامها أم أبوا – متجهة إلى التمحور حول قوة تنتسب إليها وتنتمي إلى ما تنتمي إليه. ولا يستطيع أحد أن ينكر – وهو آمن من سوط ضميره – أنّ تركيا صارت قوة يمكن أن تحقق التوازن إذا انحازت إليها جاراتها وأخواتها في الأصل الثقافي الحضاريّ.
أمَّا واجب الحسبة والنصيحة فهو واجب كبير، وهو أقوى برهان على الحب والولاء وقوة الدين؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “الدين النصيحة” وتركيا في تجربتها الرائدة بحاجة إلى النصيحة، والعدالة والتنمية وأردوغان يجب أن يستمعوا لنصح إخوانهم من العلماء والسياسيين وأهل الخبرة في ميادين الحياة كافة، ولا يتم لهم النجاح إلا بهذا، وهم لاستماع النصح أهل وللعمل به جديرون؛ لأنهم إنما نبتوا من أول يوم في بيئة الصلاح والإصلاح؛ فلا يظن بهم إلا ذلك.
وأحسب أنّ هذين الواجبين الكبيرين ينبثقان من واجب أكبر، وهو واجب الوحدة الإسلامية التي فرضها المولى تبارك وتعالى في قرآنه: “واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا”.