لا تصالح.. تبدو وكأنَّها صيحة حماسية محلقة في سماء الأحلام؛ ربما لأنَّها ارتبطت في حس الجيل الصاعد بطبيعة الصراع، بين معسكرين تبلورا بشكل غاية في الوضوح والصراحة، ولا يوجد بينهما من مساحات التسامح ما يسمح بمجرد التفكير في مصالحة أو أدنى منها، وهذا ما يجعل من شعار “لا تصالح” رمزا لمنهجية في التغيير تبدو واقعية إلى حدٍّ كبير، رغم محاولات ربطها بالخيال الصبيانيّ الجامح.
ومع ذلك، فإنّ ما أعنيه لا علاقة له بهذا السجال كله، إنَّما أتجه بندائي هذا إلى الواقع القائم، وأخاطب به قوما واقعيين إلى الحدِّ الذي يكاد الواقع يخر من واقعيتهم هدّا، وأصيح بهم بأعلى صوتي: “لا تصالح..” ولا أكتفي بذلك، بل أشير بأصابع الاتهام إلى كل من يسعى في مصالحة من أي نوع كان، أجل.. ولست أداري ولا أواري، وليس ثَمَّ ما يضطرني إلى المواراة أو المداراة.
لا تصالح؛ لأنَّ أعداءك لا يريدون صلحا، إنَّما يريدون لك أن تعيش أحلام المصالحة وأوهام التسوية؛ إيغالا في مخطط تمزيقك وتشتيت صفك وصرف همتك عن أي مشروع لا يعرفونه، أو يعرفونه ولا يرضونه، فإن أبيت إلا تكذيبي ورميي بالغلو والمزايدة؛ فدونك التاريخ، فاسأله عن سير المصالحات التي وقعت بين غالب راكب ومغلوب مركوب، فإنَّ وجدت فيه – على أي مستوى – شيئا يرضيك، فامض لشأنك ولا تلتفت لوساوسي وترهاتي.
لا تصالح؛ لأنَّك لا تملك ما تصالح عليه ولا ما تصالح به، فإنَّه لمن مسلمات السياسة (الواقعية جدا) أنّه لا يصالح إلا من يصارع، ولا يجلس على طاولة مفاوضات إلا من يستطيع أن يغرس قوائم كرسيه في أرض ثابتة مستقرة، ولا يقدر على الكتابة بالحبر إلا من يقدر على الكتابة بالدمّ. ولا يقول نعم إلا من يملك أن يقول لا؛ فلا تقبل إذا بمصالحة إذعان، ولا تحاول أن توهم نفسك بما تريد أن توهم نفسك به لتمرر المشروع، قفزا على صوت الضمير والعقل، فكل ما تؤمله من مكاسب غالبها موهوم مظنون، والمتحقق منها نادر والنادر لا حكم له.
لا تصالح؛ لأنَّ الذي يجعلك اليوم تميل إلى المصالحة هو أنك كنت تنتظرها من عدوك من أول يوم، فبان لك أنَّك تمضي على خطّ غير مستقيم، ومنهج غير قويم، وبان لعدوك أنَّك تريده، وإن كنت تصيح في كل فضاء يسمح لك بالصياح فيه أنّك لا تريده، وهذا ما يجعله يوغل بهذه “المصالحة!” أشدّ التوغل في أعماق مكوناتك العقدية والفكرية والنفسية والشعورية؛ لينسفك نسفا، فيذرك قاعا فارغا من كل شيء يمت إلى دعوتك ومنهجك، بل وجماعتك التي تمزق شملها باسم المحافظة على اسمها ورسمها.
أجل.. لا تصالح.. وهذا واقع لا خيال، وسياسة لا حماسة، فإن لم تصدق فانطلق إلى حيث شئت، لكن لا تنس أن تكف عن لعن حزب الزور، فإنك قد عدت بعد طول ازورار إلى ما نادى به من أول يوم.