ما هو السبيل الصحيح للتعاطي مع الانتخابات القادمة في مصر؟ وهل هناك أمل في أن تُحدث هذه الانتخابات حَلْحَلَةً في الأوضاع تؤدي ولو إلى مكاسب جزئية؟ أم إنّه لا يُرْتَجَى من هذا السبيل خير حتى يُرْتَجَى من ثدي القملة السَّمْنُ؟ ما هو الموقف الصحيح حيال هذه المعارك التي تدور رحاها الآن في الميدان؟ أَنَظَلُّ هكذا واقفين واجمين ننتظر عودة “الرئيس الشرعيّ” في زمان لا شرعية فيه إلا لمن يغالب ويواثب؟ أم يتوجب علينا التحرك والانحياز إلى طرف يُلْتَمَسُ فيه خير ولو كان قليلا مصنوعا؟
أليس من العدل والإنصاف وتحمل المسؤولية أن نفكر في المعتقلين وأن نجعل لهم مساحة في اهتماماتنا السياسية والحركية؟ إلى متى نستمر في هذا الموقف الْمُتَيَبِّس (المتجبس) ونمضي فيه مطالبين بمطالب أبعد عن التحقيق من بلوغ النصر بالنقيق أو النهيق؟ أما كفاكم أيها الساسة وأيها الثوار وأيها الناشطون في كل ميدان عَجَّ بالناشطين واكتظ بالأدعياء المتسكعين؟ أما كفاكم أنَّكم لم تجلبوا لأنفسكم إلا خيبة الآمال، ولا لبلادكم إلا النكسة والوكسة في الحال والمآل؛ حتى تصروا على المضي في إزجاء الشعارات والدفع بالمساكين في الشوارع والحارات؟
أين العقل وأين الحكمة؟ وأين الأمانة وتحمل المسؤولية؟ بل أين نحن وأنتم والجميع من حكم الشرع في مثل هذه النوازل؟ أم إنَّه لا يوجد للشرع حكم في مثل هذه الأمور؛ لقذارتها وعطن بيئتها، أو لكونها قدرا محتوما وقضاءً محسوما؟
تساؤلات مشروعة لا سبيل لنا إلى إنكارها أو التنكر لها، بل لا سبيل لنا إلا مواجهتها بعقل ورشد وموضوعية، فنحن قوم انتدبنا قدر الله لنكون في موضع المسؤولية، شئنا وأقدمنا أم أبينا وأحجمنا، ونحن – أمام الله ثم أمام شعوبنا وأجيالنا ثمّ أمام التاريخ – محاسبون لا محالة، ومسؤولون لا مفرّ، فما السبيل؟
بداية، يجب أن نُقِرَّ ونُقَرِّرَ أنَّ لشريعة الله تعالى في كل ما ينزل بالناس حكم – علمه من علمه وجهله من جهله – وأنَّ الحكم في مثل هذه الأمور يخضع غالباً لقواعد السياسة الشرعية، وللموازنة في ضوء القواعد الكلية بين المصالح والمفاسد، ومن ثمّ وجب التعاون الفعال بين جبهة القيادة السياسية وجبهة القيادة الشرعية.
والمشاركة على أيّ نحو في الانتخابات الرئاسية القادمة – أيّا كان وضعها – من جنس هذه الأمور التي ليس فيها حكم ثابت لا يجوز التحول عنه مهما اختلفت الأحوال، وإنّما الحكم فيها من جنس الأحكام التي تختلف باختلاف العوائد، وتناط بالمصالح والمفاسد، وهي مما تنطبق عليه قاعدة “لا ينكر اختلاف الأحكام باختلاف الأزمان”.
ولا ريب أنَّ دعم أحد المرشحين في الانتخابات المقبلة فيه جملة من المصالح؛ إذ لا يوجد عمل في هذا الميدان تمحض للشر، لكنَّ المهم ليس مجرد وجود مصالح نسميها ونُعلنها أو نخفيها ونُبْهِمُها، وإنَّما المهم هو التحقق من وجود هذه المصالح بالفعل، وألا تكون متوهمة أو مظنونة ظنّاً مرجوحاً؛ إذ لا عبرة بالتوهم ولا بالظنِّ البيّن خطؤه، والأهم هو مقابلة هذه المصالح – على فرض تحققها – بما قد ينجم من مضار ومفاسد، ووراء ذلك ما هو أكثر أهمية وهو النظر في البدائل؛ إذ ربما يوجد بديل عن هذا التصرف يحقق ما نرجوه من المصالح بدرجة أعلى أو بمفاسد أقل.
والإشكالية الكبرى لدى الإسلاميين هي أنَّهم – لطول الإلف – ينفرون من العمل خارج الأقفاص التي صنعها النظام العالميّ، ويشعرون بالغربة والضياع إذا خرجوا عن الأنماط المألوفة، فبقوا مع أنظمتهم في صراع كتدافع ركاب القطار؛ هؤلاء يهرولون للأمام وأولئك يدفعونهم للخلف، والقطار يحمل الجميع إلى الوجهة التي يريدها قائده.
يضاف لهذه الإشكالية أنَّهم يتحركون بردة الفعل الآنية، بلا رؤية جليَّة تُبْنى على استشراف للمستقبل وقراءة صحيحة للواقع، وبلا مشروع واضح المعالم يلتقي عليه أو على خطوطه العريضة جميعهم أو جمهورهم، وأنَّهم في تحركاتهم ليسوا واضحين ولا صرحاء، لا مع أنفسهم ولا مع الشعوب التي يخاطبونها، وهذه أمور جوهرية فاصلة تتحكم في النتائج مثلما تتحكم في المسارات.
أجل إنَّ لدينا معتقلين يعانون القهر ويعاني أهلهم الفقر، وإنَّ علينا واجباً كبيراً تجاههم وتجاه المحيطين بهم، لكن من الذي قال إنَّ دعم أحد المرشحين سيفضي إلى حل أزمة المعتقلين وإنهاء معاناة ذويهم؟ ثمَّ من ذا الذي يجرؤ على الزعم بأنَّها الوسيلة الوحيدة لإنهاء هذه الأزمة وغيرها من الأزمات؟ هل نحن تعلمنا كيف نستفيد من تدافع الخصوم بصور لا تنسبنا إلى أحد الطرفين، ولا تضطرنا إلى التنازل عن ثوابتنا؟ وهل نحن استنفدنا كل الوسائل الممكنة في الداخل والخارج؛ حتى نضطر إلى هذه الوسيلة؟ الواقع أنَّنا لم نفعل شيئاً مما يتوجب فعله لا في الداخل ولا في الخارج، وفيما يبدو أنَّنا لم نفعل لأنّنا كنَّا طوال هذه المدة ننتظر فرصة كهذه؛ لأننا لم نألف من العمل السياسيّ إلا دور المعارض الذي يشرعن للنظام في مقابل الفتات من المكاسب، ولم نحسن من الحراك إلا مظاهرات لا تهدف إلا إلى إيصال رسالة لحكام هذا العالم أنَّنا لا زلنا أحياء، فلا تنسونا من فتات موائدكم.
وللتذكرة فقط، فإنَّه لم يحدث مرة واحدة في تاريخ مصر المعاصر، أن خرج الإسلاميون من السجون بسبب كهذا، وإنَّما غالباً ما تحدث تغيرات محلية أو إقليمية أو دولية تستتبع إجراءً سياسياً مبنياً على الموازنة بين المصالح المزدحمة؛ يسفر عن فرجة تنفرج للإسلاميين، وكلها من هبات القدر، فهل يمكن أن يكون لنا قراءة واستقراء، ودراية واستشفاف، واستطلاع واستشراف؛ نتمكن به من حسن استثمار للأحداث وقت وقوعها، لتوجيهيها إلى تحقيق مكاسب ولو جزئية؟
إنَّه لا يزال بإمكاننا أن نحدث حلحلة في الأوضاع بآليات كثيرة، هذا إن أردنا، لكن المشكلة أننا لا نريد، وعندما لا نريد يُفرض علينا ما يُراد لنا، وإنَّه ليراد لنا في الفترة المقبلة أن نتراجع كثيراً عن مواقفنا وثوابتنا، وأن تتحول الثورة من معنى حيّ في القلوب، إلى ذكرى ميتة في الأذهان البليدة، وأن تؤول الشرعية من مبدأ مُعَظم في حس الجيل إلى مجرد مطلب باهت لا معنى له في مزدحم الأولويات، ثم بعد أن يتحقق ذلك لهم ويأتي قبض الثمن، لا ندري كيف سيكون. بل لا ندري على وجه الدقة أيكون أم لا يكون، وأغلب الظنّ أن الثمن سيكون هزيلاً بقدر لقمة يرميها السارق لأهل البيت ليتمَّ جريمته وهو آمن من لغطهم وصياحهم.
إنَّ علينا أن ننظر إلى ما يعانيه المعتقلون، وإلى ما يقاسيه المضطهدون، بل وإلى ما يعيش في الشعب من ضنك وكرب وشدة، لكن كيف؟ هذا هو محل الاجتهاد ومحط التقليب والنظر، ولست أرى المسارعة إلى الدخول في مهزلة انتخاباتالرئاسة محققاً لشيء من ذلك إلا بمفاسد جمة ومضار لا تطيق الاجيال القادمة تحملها. ولا زلت أرى أنَّ أمامنا الكثير لم نفعله، وإنَّني لشاهد على ظاهرة مفادها: وجود كثير من المجالات تخلو من سعي الرجال النابهين الحاذقين أصحاب الهمم العالية؛ لأسباب أعلم أكثرها وأجهل بعضها؛ والله على ما أقول شهيد.
إنَّ ترشح عنان لن يكون له من القوة والخطر إلا بالقدر الذي يسمح به الأسياد الأمريكان، وعليه فلن يكون التغيير من هذه الجهة إلا لتحقيق مصالحهم ومصالح حلفائهم؛ لأنَّنا لم نضطرهم إلى ذلك بنكاية فيهم أو في موظفيهم الحاليين في النظام المصريّ. وعليه، فلا يمكن تصور أي مشاركة من الإسلاميين إلا في إطار صفقة مع الأمريكان، مؤداها إعادة ترتيب المشهد بما يحقق غرض احتواء غضبة شعبية محتملة أو تفادي نمو وانتشار لحركات جهادية مسلحة. وإنِّني أكاد أجزم بالصورة التي سيتم بها قبض الثمن، فإنّ الإفراج عن المعتقلين لن يتحقق إلا لمن لا دور لهم ولا أثر، ولن يتحقق إلا بإعلان توبة وكتابة مراجعات، مع بعض المكاسب الدعوية والسياسية التي لا تساوي شيئاً بذاتها فضلاً عن قدرها إذا قيست بوأد المبادئ ووطء الثوابت.
إنَّ ترشح عنان هو الدليل الذي تختم به سلسلة الأدلة الشاهدة على أن الموقف في مصر مرشح للانفجار على نحو ما، وإنَّ الصراعات بين أجنحة النظام والعداء المستحكم بينه وبين فئات كثيرة في الشعب تنبئ عن خطر، وإنَّ الأيام القادمة حبلى بالأحداث التي لا يمكن التنبؤ بقسوتها ووجهتها. ومن ثمّ، فإنَّ الضغط على النظام برمته داخليا وخارجياً بأدوات الضغط المؤثرة سيعجل بصياحه؛ وعندئذ يمتهد السبيل لحلول جزئية تحقق مكاسب عاجلة وتحلحل الأوضاع دون اضطرار لتغيير المواقف وتبديل الثوابت، ودون الوقوع في خضم المفاسد المهلكة.
وإن لم يكن هذا، فإنّني وإياكم على وشك تصديق مقولة مفادها أنَّ معظم الجماعات الإسلامية الكبرى، ومعها الأحزاب الكرتونية المعارضة، هي الوجه الآخر للنظام العربيّ الذي تم ترتيبه على عين النظام الدولي، وإنّه لا سبيل للخلاص إلا بانتظار انقراضها وذهاب ريحها، أو بأن تثور الشعوب عليها مع الأنظمة التي تحتويها.