لم أكن أتخيل أن تتردى امرأة تنتسب إلى (الفقه المقارن) في هذا المنحدر الهابط؛ فتجمع في مجلس واحد بين اختلال الفقه وانعدام الأدب، ولولا أن الدوافع أبت إلا أن تطل برأسها في ذلك المجلس المشؤوم، لا تهمنا المرأة باختلال العقل وانعدام الحسّ، فما كادت أستاذة (الفكه المكارن!) تنتهي من فتواها تلك حتى بادر المحاور إلى الكشف عن الغاية التي يتواطؤون عليها بقوله: إذا يجب أن نستجيب لدعوة الرئيس عبد الفتاح السيسي بتجديد الخطاب الديني!! وعلى الفور تجيبه: نعم.. طبعا، (أو كما قالا!!).
ولو كان تجديد الخطاب الديني عندهم يهدف إلى تطوير الآليات وترشيد الأداء لما جلست تتحدث – ابتداء – في مثل هذه المسائل الدقيقة الحساسة على رؤوس الدهماء، بغير ضرورة تستدعي ذلك؛ فليس كل ما يعلم يقال، وليس كل ما يقال في أروقة الدراسات الأكاديمية يصح أن يطرح على ملأ الناس، هذه أبسط قواعد الرشد في الخطاب الدينيّ عند من يريد نفعا ويروم صلاحا.
إلا أنَّ تجديد الخطاب الدينيّ يعني عندهم تجديد مضامين الدين نفسه؛ لذلك يمهدون له بالطعن على الفقهاء والمحدثين والمفسرين وعلى مصادر الفقه والحديث والتفسير، وما إثارة مثل هذه المسائل إلا لتشويه صورة الفقه والفقهاء عند البسطاء؛ تمهيدا للانقضاض على أحكامه بالتبديل والتغيير باسم التجديد والتطوير.
ويبدو أنَّ (الفقيهة!) كانت مشغولة في مطبخها فتعجلت (سبك) هذه المسألة دون أن تراجعها في مصادر الفقه المعروفة، وخرجت علينا بهذا الادعاء الغريب، وهو أنَّ الفقهاء اختلفوا فقال بعضهم بجواز معاشرة البهيمة، مع أنَّ الفقهاء لم يختلفوا قَطُّ في حرمة ذلك، ولا يوجد منهم من قال بجوازه، وإنَّما كان خلافهم في العقوبة المترتبة على هذه الجريمة، فقال الجمهور بالتعزير، وقال بعضهم يقتل وتقتل البهيمة.
وفي مسألة أخرى يحدث تبديل للمواقف؛ فيفتي أحد المنتسبين للفقه بأنَّ مضاجعة الرجل لزوجته الميتة حلال، وتقوم هي في نحره مجادلة ومنافحة، ولكن المشهد في النهاية غاية في العبثية، فلا يوجد أحد من علماء الأمَّة وفقهائها المعتبرين يقول بحلِّ هذا البتة، وإذا كانت الشريعة قد سكتت عن العقوبة فلم تجعل لهذه الجريمة حدا فإنَّ ذلك مَرَدُّه إلى أنَّه أمر شاذ تعافه النفوس وتأنف منه الطباع، فلا يتصور وقوعه، وأكاد أجزم بأنَّه لا يقع في دنيا الناس إلا في أدمغة هؤلاء المناكيد وأخيلتهم المريضة، ومع ذلك فالحاكم موكول إليه إيقاع العقوبة على سبيل التعزير في الجرائم التي لم تضع لها الشريعة حدا، وما لم تتعرض له نصوص القرآن والسنة وجب على المجتهدين أن يتعرضوا له بالاجتهاد في ضوء القواعد العامة المقررة في الكتاب والسنة، ولن يجد فقيه في نفسه ترددا بالقول بالتحريم، ومأخذ التحريم هو الانتهاك لحرمة الميت، وحرمة الميت أصل مقرر بالقطع.
إنَّ إشاعة هذه الفتاوى والتقليب في محتوياتها على ملأ الناس يهدف إلى أمرين لا يدري المرء أيهما أخبث من الآخر، الأول: إشاعة الفاحشة والشذوذ الجنسيّ؛ ليس فقط بسبب الفتوى المبيحة للمحرم، وإنما لذلك ولأمر آخر أدق وأعمق في ميدان التربية، وهو أنَّ كثرة الدندنة والطنطنة حول هذه الموضوعات يخدش الحياء ويهتك الستر، ويجرئ النشء؛ لذلك قال الله تعالى في سياق التعقيب على حديث الإفك: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (النور 19) أيّ أنَّ إشاعتها بالكلام ذريعة لشيوعها في واقع الحياة.
الأمر الثاني: هو إظهار الفقه الإسلاميّ على أنَّه فقه بدويّ متخلف، وذلك بقصد تشويهه ثم تزييفه ثم تبديله، وهي غايات في الحقيقة تتفق مع توجه الانقلاب العسكريّ الغشوم، إذ لم يكن الانقلاب انقلابا على الثورة وعلى الشرعية وحسب، وإنما كان مع ذلك انقلابا على هوية الأمة وعقيدتها.
وعندما تشيع الفتاوى بهذه الصورة الفجة من أناس لا علم لهم ولا فقه، في الوقت الذي يعتقل فيه العلماء الربانيون في البلاد العربية كافة، وينكل بهم؛ فهذا يعني أنَّنا مقبلون على فتن كقطع الليل المظلم يركب بعضها بعضا، وهنا تأتي الأحاديث التي تحذر من سوء المصير، فعن أبي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “يُقْبَضُ العِلْمُ، وَيَظْهَرُ الجَهْلُ وَالفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الهَرْجُ”، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الهَرْجُ؟ فَقَالَ: “هَكَذَا بِيَدِهِ فَحَرَّفَهَا، كَأَنَّهُ يُرِيدُ القَتْلَ” صحيح البخاري (1/ 28) وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزَاعا يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بِقَبْضِ العُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِما اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤوسا جُهَّالا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا” متفق عليه صحيح البخاري (1/ 32) صحيح مسلم (4/ 2058).
والعجيب الغريب أنَّ قانونا يجرم الفتوى بدون ترخيص على وشك الصدور بمصر – إن لم يكن قد صدر بالفعل – في الوقت الذي نشاهد فيه الفوضى في الفتاوى تقع ممن يفترض أنَّهم مَنْ سيمنحون الترخيص وسيحملون المضبطة القانونية لمحاكمة من يفتي بغير ترخيص، فإلى أين يأخذون الناس؟ أما يكفيهم أنَّهم أفسدوا دنياهم بالغلاء والقهر وسلب الحريات؛ حتى ينثنوا على دينهم ليفسدوه ويضيعوا الشعوب آخرتهم كما ضيعوا عليهم دنياهم؟ فما أعجب أمرهم! وما أغرب شأنهم!