ها هو إعصار إيرما قد هدأ؛ فلنهدأ نحن، ولْنَعُد إلى أنفسنا، ولْنُعِد النَّظر في مواقفنا؛ فهي مقياس لمستوى وعينا واستيعابنا، ما الذي نتعلمه – حقيقةً – من هذه الحادثة ومن ردود أفعالنا تجاهها؟ هذا سؤال يتوجب علينا الإجابة عليه؛ إذ لا يصح – بعد كل هذه الضجَّة – أن نمضي وكأنَّنا كنَّا نعيش أحلاماً ثم استيقظنا (والسلام)! وللإجابة على هذا السؤال نقول ونحن على يقين:
أولا: إنَّ سنَّة الله تعالى في أخذ الظالمين ماضية لا تتخلف ولا تتبدل؛ ولكنَّها لن تتحقق إلا بأيدي المؤمنين، وهذه الآية نصٌّ في القضية: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا؛ سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) (الأحزاب 22- 23)، وما عداها من الآيات التي تقضي بأنَّ سنة الله في أخذ الظالمين ماضية لا تتبدل ولا تتحول محمولة عليها؛ بما يفيد أنَّ أخذ الأمم الظالمة المحاربة للإسلام لن يكون بكوارث كونية من جنس ما أخذ الله به عاداً وثمود وفرعون والمؤتفكات؛ لأنَّ وظيفة الأمَّة الإسلامية أرقى من الأمم المسلمة السابقة؛ (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران 110).
لذلك وجدنا سورة القمر بعدما قصَّت علينا بإيجاز أخبار مصارع الأمم الغابرة ثم انتهت إلى قريش تشير إلى الآلية الجديدة التي سوف تتحقق بها سنة الله: (أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ، أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ، سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر 43- 45)، ثمَّ تأتي الأنفال بعدما تحققت النبوءة القرآنية في بدر؛ لتعقب بما يؤكد الحقيقة: (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) (الأنفال 52)، فما وقع لهؤلاء في بدر على ذات السنة التي وقع بها العذاب لأولئك، غير أنَّ الأسلوب اختلف.
ثانيا: إنَّ الكوارث الكونية لا تكون دائماً على سنَّة العقوبة، فقد تكون كذلك، وقد تكون على سنَّة التذكير، مثل ما ذكره القرآن الكريم عمَّا وقع للأمم المكذبة قبل أخذ الله لها: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) (الأنعام 42) (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) (الأعراف 94)، وقد تكون لمجرد الابتلاء الذي تتنوع أغراضه وحكمه، ولقد وقع للمسلمين مثل ما وقع للكافرين؛ إذ تعرضوا كما تعرض غيرهم للزلازل والبراكين والعواصف والأعاصير، وليس أدل على ذلك من أنَّ تسونامي (2004) الإعصار الأعنف في التاريخ المعاصر وقع أغلبه في بلد مسلم وكان أغلب ضحاياه من المسلمين.
ثالثا: إنَّ حربنا ليست مع هذه الشعوب، وإنما مع الأنظمة ومؤسساتها وجيوشها التي تحارب الله ورسوله، وتمارس الفتنة على أرض الله، وتأبى أن يكون الدين لله وأن تكون السيادة لشريعة الله؛ لذلك وضع القرآن للجهاد غاية محدَّدة: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة 193)؛ فيجب أن نفرق في مواقفنا بين هذه الشعوب وأنظمتها، فأمّا الأنظمة وما وراءها من قوى ومؤسسات تحركها وجيوش وأجهزة تتحرك بها فهي محاربة لله ورسوله يجب جهادها – على تفصيل يطلب من مظانِّه – ويحرم موالاتها ومظاهرتها، أمَّا الشعوب فالأمر فيها مختلف.
فهذه الشعوب – من جهة التكييف الذي تنبني عليه الأحكام الدنيوية – كفار، وأمَّا من جهة موقفهم ومصيرهم في الآخرة فالحكم على أعيانهم موكول إلى خالقهم سبحانه وتعالى؛ ويبقى أمر آخر لا علاقة له بالأحكام الدنيوية ولا بالمصير في الآخرة، وهو موقفنا منهم من حيث الخطاب والتعامل، فهذا شيء مختلف تماماً، لذلك فرقت الآيات تفريقاً حاسماً بينهم وبين من يستحقون المعاداة: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة 8-9).
وقوله تعالى: (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم…) الآية أَيْ: “لَا يَنْهَاكُمْ عَنِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْكَفَرَةِ الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ فِي الدِّينِ كَالنِّسَاءِ وَالضَّعَفَةِ مِنْهُمْ” (ابن كثير 8- 118) وليس صحيحاً أنَّها منسوخة بآيات السيف في التوبة؛ إذ لا نسخ بدون دليل، ولا سيما إذا أمكن الجمع، وقد نزلت هذه الآية على سبب رواه البخاري وغيره، فعن عروة بن الزبير قال: أَخْبَرَتْنِي أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِي بَكْرٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً، فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آصِلُهَا؟ قَالَ: “نَعَمْ” قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا: (لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) (صحيح البخاري برقم 5978).
وإذا كانت أمُّ السيدة أسماء قد استحقت هذا فشعوب أوربا وأمريكا وأمثالها أحقُّ وأجدر؛ لأن تلك المرأة وأمثالها بلغتهم دعوة الإسلام على أتمِّ وجه وأكمله، أمَّا هؤلاء فأغلبهم لم تبلغهم الدعوة على وجهها الصحيح؛ والله تعالى لا يؤاخذ العباد قبل بلوغ الدعوة الرسالية، وهذا مقتضى قوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) (الإسراء 15)، وقوله عزَّ وجل: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء 165)، فهم – وإن لم يكونوا أهل فترة – إلا أنَّهم من هذه الجهة فيهم شبه من أهل الفترة، ولولا ما يجري عليهم ويجب في حقهم من أحكام دنيوية بمقتضى الشريعة لاعتبرناهم أهل فترة.
رابعا: ينبغي لنا أن نتعلم من طريقة تعاطي هؤلاء القوم مع المصيبة؛ كيف أداروا الأزمة بأسلوب علميّ؟ وكيف تعاونوا تكافلوا؟ وكيف يتعايش هؤلاء الناس مع الطبيعة وقوانينها بروح المغالبة والمواثبة؟ إنَّ هذه الروح التي استقوها من عقيدة باطلة لم نستطع نحن أن نستقيها من عقيدتنا الصحيحة، فإذا كان الفكر الحداثيّ القائم على منازعة الله لسلطانه وسيادته قد أعطاهم هذه الروح؛ فإنَّ القرآن الذي يُعَبِّدنا للخالق جلَّ وعلا يجعل من صلب هذه العبودية أن نعمر الأرض وأن نغالب ما فيها من تحديات وصعاب من أجل هذا التعمير الذي هو في حقيقته جزء من العبادة، وهذه الروح تجدها طافية في الآيات القرآنية الباعثة: (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها) (هود 61) (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) (الملك 15) (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ) (العنكبوت 20) (إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة 30) (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ) (النمل 62)، وغيرها من الآيات التي تبعث فينا روح المغالبة والمواثبة.
وأخيرا، فإنَّ ما أصابنا من إخفاقات لا بدَّ أن يكون له ردّ فعل على تصرفاتنا، لكن لا يصح أن نطلق العنان لردود الفعل؛ فنظل ننتظر الانتقام الإلهي يقع على المخالفين لنا دون أن نميز بين من يستحقه ومن يستحق منَّا الدعوة والإرشاد ومعها الرحمة والعدل والسماحة، ودون أن يكون منَّا تحرك صحيح لنكون ستار قدرة الله في تحقيق وعده لهذه الأمَّة بالتمكين والنصر. والله تعالى أعلم، وأستغفر الله من كل ذنب.